اطلس:عادة ما يكون شهر كانون الأول ثقيل الوطأة على روحي، اعتدت أن أفسره بأن الشهر الأخير يمشي ببطء نحو نهايته الموعودة، وهو تفسير ذاتي بلا شك، ولا أظن أني أسقط عليه أهوائي ومزاجي، بل أقر بأني أتحامل على نهايات السنوات ظلماً وبهتاناً،
بينما تذهب إلى موتها تاركة معالم وملامح كالحة تنتقل إلى السنة التي تقف خلف الباب، دون أن تتحمل مسؤولية ما تركته من ذكريات موجعة.
لا أجد للشهر الأخير في كل عام أي لون خاص أو نكهة تميزه عن باقي الأشهر، تُسوِّغ له كل هذا الصخب والضجيج المرافق لنهايته أو منحه خصوصية الاحتفاء بنهاية السنة أكثر من منتصفها، وكيف نبرر بينما نهارات كانون الأول تذكرنا بذنوبنا وأوجاعنا التي لا تندمل، ولياليه تطرح الأسئلة الاستطرادية، بينما ينسب لنفسه ادعاء تقييم الحصاد السنوي ويميزه عن غيره من الأشهر.
على كل حال، فإن العرافين والعرافات ينشطون في نهاية العام مصرين على إقناعنا بأن لكل سنة خصوصية مرتبطة بحركة النجوم والكواكب في فضاء المجرة الواسع، يحللون ويفسرون بناء على حاسة لم تبرهن على وجودها تقوم باستشعار الظواهر الخفية ومن ثم تضعها في قوالب مستقبلية لها وقع السحر.
يقابل تنبؤات العرافين والعرافات، تحاليل وتفاسير المحللين والقادة السياسيين وهم كثر، يجتهدون في تحليل الظواهر والمعلومات المادية المرئية، ما خفي منها وما ظهر، دون ربط تحليلاتهم بآخر العام أو بدايته أو منتصفه، للحصول على رواية اقرب للحقيقة، ويكون لها وقع المفاجأة. سنجد بأن العرافين والعرافات قد تنبأوا بما يخبئه القدر لفلسطين من مجازر وأهوال سيبلغ عددها يوميا ما ينوف عن عشرة مجازر في اليوم الواحد، بينما تحليل القادة قدم نصوصا متزعزعة بين دفتي دفاتر مليئة بالأخطاء، ومن ثم نؤسطرهم.
وأعترف عادة لديسمبر بمزايا لا تتحلى بها الشهور الأخرى، فقد تم التواطؤ على إسناد مهمة التقييم وأعمال جرد الحسابات الدنيوية، يليق به المراجعة وتحديد مساحات الندم على ما فات من فرص أو على ما وقع من أخطاء، فقد يمنحنا وقتا للأمل والألم. وهذه الأخيرة يوليها بعضنا الكثير من الاهتمام والالتزام، لاستطلاع الطوالع والحظوظ ومعرفة ما يخبئه الغد من مفاجآت، وهذا بيت القصيد.
على مشارف العام وأطلاله، الأهم دون منازع في جميع عمليات التقييم والتفاكر، أن يحتل الحال الفلسطيني مكانته التي أعادتها غزة له بثمن باهظ دفعته بالجملة والمفرق، فما كان قبل غزة يجب أن لا يكون كما هو بعدها، لأن علينا أن لا نسمح للتضحيات بالضياع سدى، انما مطلوب أن يُحفظ لغزة فضل انجازاتها وإعادتها اليها، لأنها بينما كانت تدفن أبناءها دون وداع يحترم طقوس الموت وقبل أن تفقد الأجساد حرارتها، لأنها وهي لم تجد الوقت الكافي بين قصف وقصف، للبحث عنه بقية أشلائهم بين الأنقاض، كانت تثبت أحقيتها في الوجود. وعليه، تحتاج غزة إلى قوْل الكلمات التي تحتاج أن نقولها بما يكفي، وأن تسمعها بوضوح وصراحة بما يكفي، بلا تأويلات أو خطابات رنانة تخفي الحقائق خلف الأغلفة.
في ثرثرتي مع نهاية العام، لا أجد قالباً أضع فيه مشاعري اتجاه: كلمة الوحدة، وتحديد موقفي وغربتي عن تبهيت الحنين إلى تحقيقها، لا أجد القالب المناسب لتوصيف واقع الخلاف وارتفاع منسوبه لمدة تتجاوز ستة عشرة عاما، بينما نحن دون تحقيقها كالعراة.
فكّرتُ بالأسباب التي تلجمنا عن قول ما يجب أن يقال، ما هي الكلمات التي نحتاج أن نقولها أكثر، وسماعها أكثر، هي الكلمات الواضحة والصريحة التي ننزع بها الأقنعة ونضع الإبر في الفقاعات المنفوخة والدعاية الفارغة بينما يعيش الأكثرية في القاع..
ليس مهما ما حصل لي ما بين عامين، في الوقت والشهر المخصص للاكتئاب والحزن: أن الحظ ابتسم لي بعض الوقت، ولم يضحك، لا أطمح أكثر من ابتسامة، لأني من الناس الذين تحركهم عواطفهم كثيراً، أشكر ابتسام الحظ لي لوهلة كونها ميزتني حين مكنتني من إنجاز مهمة مستحقة تأخرت عن موعدها كثيراً، كتابي. فلطالما وضعت الكتابة وذاكرتها شوكة في حلق قلمي، كنت لا أقلعها بل أتركها سنوات، المهم أن عامي قد ميزني بأن شهد على إصدار كتابي عن مغامرتي الفلسطينية الخاصة بطابعها الشخصي العام، لا انفصال بينهما، فلسطينية بكل صفحاتها النبيلة، وكل حرف سجلته في الكتاب عن ما بعد لحظة مجنونة، شاءت أن أربط حياتي برجل فلسطيني نبيل بامتياز، مشروع شهيد مارس فلسطينيته وجرجرني معه إلى ما بعد نهايته.