اطلس: لم يكن الخوف من المجاعة همّ الناس الشاغل في بداية هذا العدوان البغيض على قطاع غزة، فلم يسبق أن نختبر هذا الشحّ في أيٍّ من العدوانات السابقة برغم قسوتها
واعتدنا توفّر كافة المواد الغذائية، ودخول قوافل المساعدات الإنسانية من المعابر. بل كان جُلّ الخوف والقلق في البداية من شدّة العدوان هذه المرّة من حيث القتل والدمار والتشريد، والذي يختلف عما سبقه على كافة الصعد.
وقد اختلطت التفاصيل كذلك على غالبية الناس في بداية العدوان، ولم يتوقّعوا أن تطول هذه الحرب أو أن تكون حدّتها بهذه القسوة، وأن يفصل الاحتلال جنوب قطاع غزّة عن شماله، وأن تقوم حكومة الحرب الفاشية باستخدام الجوع سلاحًا آخر كقنبلةٍ موقوتة تنفجر وسط الناس إلى جانب الصواريخ والقذائف الحارقة القاتلة.
في ذات الوقت، كانت تصريحات قادة الحرب الفاشيين منذ بداية العدوان تُشير إلى أنهم سيستمرون في عدوانهم حتى النهاية، لذلك ومنذ بدأ التهجير القسري للناس نحو جنوب القطاع، كانت المؤشرات تنمُّ عن أزمة اقتصادية ستجتاح مدينة غزة وشمالها.
حاولت في الأشهر الأولى للعدوان شراء كُلّ ما يمكن شراؤه بكمياتٍ وفيرة لتأمين احتياجاتنا من المواد الأساسية: الغذاء، وأدوات النظافة، والأطباق والملاعق البلاستيكية والأكواب، وصناديق مياه الشرب، الأمر الذي ساعدنا على الصمود في وجه المجاعة التي حلّت على مدينة غزة و شمالها، ولكنّنا أيضًا عانينا كما عانى كُلّ الناس من نقص المواد الغذائية التدريجي وشُحّها، بل واختفاء قسمٍ كبير منها، ولكنّنا مع بعض التخطيط الجيد لإدارة الاقتصاد المنزلي، واجهنا قدرنا وتمكّنا من مواصلة الشهور الستة الماضية بكل قساوتها، وخصوصًا في شهر رمضان، حيث تفاقمت المشكلة باستغلال التجار لحاجة الناس وارتفعت الأسعار بشكلٍ جنوني.
وبالرّغم من الحديث عن دخول المساعدات المحدودة، لم نتمكّن نحن والكثير من الناس من الحصول على أيٍّ منها لأسباب عدّة، منها قلّة المواد التي تدخل إلى الشمال بالفعل مقابل عدد السكّان وحاجتهم، و قيام جيش الاحتلال بإطلاق الرصاص على الشبّان عند نقاط دخول شاحنات المساعدات، حيث سقط العشرات من الشهداء في سبيل لقمة العيش ولإبقاء عوائلهم على قيد الحياة، ومن جهة أخرى سيطر بعض اللصوص على طريق الشاحنات وسرقوا محتوياتها وقاموا ببيعها بأعلى الأسعار، وكلّما حاولت اللجان الشعبية تنظيم توزيع المساعدات بشكلٍ عادل على الناس يقوم جيش الاحتلال بقصفهم وقتل العشرات منهم.
وقد كان كُلّ ذلك يحدث على مدار ثلاثة شهور تحت مرأى ومسمع العالم على شاشات التلفزة والناس يتضوّرون جوعًا، فحتى الأطفال لم يتوفُر لهم الحليب ووصل سعر أصغر علبة حليب للمواليد الجدد نحو سبعين شيكلا، مما أفقد أطفالا كثرًا حياتهم.
لكن، وبالرغم من استمرار العدو في أيام عيد الفطر في حربه الشرسة على قطاع غزة والمنطقة الوسطى خصوصًا، وذلك بإلقاء الصواريخ استهدافًا للمنازل، حيث ارتفع عدد الشهداء اليومي في تطوُّرٍ دراماتيكي إلّا أنّ تحسُّنًا ملحوظًا قد طرأ على مزاج الناس، حيث يأملون أن يتم الوصول إلى اتفاق بين حماس و حكومة الحرب الصهيونية عبر الوسطاء بحيث ينتهي هذا العدوان.
كذلك تفاءلوا خيرًا بدخول البضائع إلى مدينة غزة، سواء الخضروات والأجبان واللحوم المجمدة والأرز والمواد الغذائية الأخرى برغم ارتفاع الأسعار في الأسواق، وكان من اللافت للانتباه أن جيش العدو قد سمح للتُجّار عبر التنسيق الأمني مع وزارة الداخلية في السلطة الفلسطينية بإدخال بضائعهم، ومنذ اليوم الأوّل للعيد بدأت الأسعار تنخفض تدريجيًا و ببطء، مما مكّن أناسًا أكثر من شراء مواد أساسية يحتاجونها.
قالت قريبتي أنها أخيرًا ستُلبي رغبة طفلها بأن يأكل البيض المسلوق، وأن تقلي له بعض البطاطا. وقالت إحدى السيدات أنها أرسلت ابنها لشراء ثلاث حباتٍ من الخيار وحبّتين من الطماطم وحبّة فليفلة حلوة لعمل طبق سلطة تلبية لرغبة أطفالها، وقد حملت طفلتها الأصغر قطعة خيار ورقصت بها، لأنّهم طيلة أربعة شهور ونصف لم يتمكّنوا من الحصول على الخيار أو البطاطا أو غيرها.
أمّا نحن في المنزل فقد غامرنا واشترينا الدجاج المثلّج لعمل وجبة من الشطائر في العيد، وأيضًا اشترينا الجبن لعمل البيتزا وبعض الفطائر، ورغم أنّنا أسرفنا في استخدام الطحين بمناسبة العيد، لكنّنا تشجّعنا لأننا اشترينا كيس الطحين بسعرٍ أقل من السابق (120 دولارًا)، و كان هذا سبب فرحة المقيمات والمقيمين في المنزل، كما تمكّنا أخيرًا من شراء البيض مع دهشة الصغار والكبار بالتعبير عن ذلك بكلمة "وااااو".
ما يحدث للناس من مشاعر مختلطة بين الأمل واليأس وبين التفاؤل والتشاؤم، والحيرة والتردد في اتخاذ أي قرار من أيّ نوع مهما كان صغيرًا مدفوعٌ أساسًا بحالة الانتظار، وعدم وضوح الصورة أمامهم حول ما يمكن أن يحدث لهم ولغزّة، ليس غدًا بل بعد ساعةٍ واحدةٍ من الزمان حتى.
المهم، يبقى لدى الناس الرغبة والأمل بإنهاء هذا العدوان، وأن يتمكنوا من العودة لحياةٍ جديدة. وبرغم معرفتهم بأنها لن تكون حياةً سهلة، لكن على الأقل لن يكون فيها قصفٌ واستشهادٌ وطائرةٌ زنانة تخرق الرأس كما المسمار.
زينب الغنيمي، من مدينة غزّة تحت القصف والحصار