اطلس- قبل أيام قليلة من انعقاد قمة كامب ديفيد الخليجية-الأمريكية، تعرضت إدارة الرئيس أوباما إلى نكسة في مجال العلاقات الخارجية عندما صوت الكونغرس ضد مشروع اتفاقية الشراكة الباسيفيكية.
وقد بدت هذه الموقعة كأنها واحدة من مواقع الكرّ والفرّ اليومية بين أوباما والحزب الجمهوري، ولكنها كانت مختلفة عنها، إذ اختلطت الأوراق فيها فصوّت جمهوريون إلى جانب المشروع بينما عارضه ديمقراطيون.
الأهم من ذلك هو أن الكونغرس تجاوز سقف المناكفات المحدودة مع أوباما لكي يتخذ موقفاً له آثار بعيدة المدى في السياسة الخارجية الأمريكية.
وإن أراد المرء تقدير حجم الآثار التي سيتركها هذا الموقف الأخير فإنه من الضروري الأخذ في الاعتبار السياسة الخارجية الأمريكية العامة، فضلاً عن التراجع المستمر الذي يلمّ بالولايات المتحدة. عندها سوف نفهم سر الانزعاج الشديد الذي أصاب مؤيديه.
فالمشروع جاء وسط مبادرات متتالية من أجل إعادة ترتيب البيت الأطلسي في ظل اتفاقية للشراكة الأطلسية، وإعادة الروح إلى «قانون مونرو» واحتواء الصين وتهميش روسيا وترويض دور «بروكس»، وترميم العلاقة مع دول الخليج.
وفي سياق هذه المبادرات تعتبر إدارة أوباما أن مشروعي الشراكة الأطلسية والباسيفيكية هما في الحقيقة مشروع واحد يشكل أساساً متيناً لهندسة العمران الدولي المعاصر.
فإحكام العلاقة مع الدول الأطلسية والباسيفكية يعني تحول واشنطن إلى واسطة العقد بين تكتلين إقليميين يضمان أقطاراً تمسك بأكثر من نصف حجم الاقتصاد العالمي.
فمجمل الناتج القومي لدول الشراكة الباسيفيكية وحدها يصل إلى 40% من حجم الناتج القومي للعالم بأسره، أما حجم تجارتها الخارجية فيصل إلى 30% من حجم التجارة الدولية، كما جاء في مجلة «الإيكونوميست» (25/04/2015). إن الفوائد المتوقعة من المشروعين لا تحصى، وهي لا تنحصر في المجال التجاري، بل تتعداه إلى المجالات السياسية والاستراتيجية، كما يقول كريستيان إيهلر، وهو من البرلمانيين الأوروبيين الذين يقفون على رأس التيار المؤيد للشراكة الأطلسية.
وتستند التقديرات والتوقعات حول دور الشراكة الأطلسية، واستطراداً الباسيفيكية، إلى القوة العسكرية الأمريكية التي لا تضاهيها، حالياً، قوة أخرى، خصوصاً أن حجم إنفاقها العسكري ارتفع في السنوات الأخيرة إلى ما يوازي مجمل إنفاق دول العالم الأخرى. وإذا أضفنا إلى القوات المسلحة الأمريكية القوات التابعة للحلف الأطلسي وللدول المدعوة إلى المشاركة في الشراكة الباسيفيكية، مثل الهند وإندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية، يمكننا عندئذ أن نرى مدى أهمية المشروعين الأمريكيين وآثارهما في النطاق العالمي.
ورغم هذه التوقعات والمعطيات فإن المشروعين قوبلا بمعارضة واسعة في أوروبا وآسيا.
وقد ارتبطت هذه المعارضة بمسوّغين رئيسيين: المسوغ الأول، كان السرية التي أحيطت بها والمداولات المفاوضات الرامية إلى بلورة المشروعين، أما المسوغ الثاني، فكان مضمون الاتفاقيتين وأثرهما في سوق العمل في الولايات المتحدة بصورة خاصة.
على الصعيد الأول، انتقدت قوى كثيرة معنية بحقوق الإنسان حجب المعلومات المتعلقة بالمشروعين عن الرأي العام.
فالمشروع الأطلسي لبث سراً حتى تم تسريبه إلى صحيفة المانية فاطلع عليه الرأي العام.
وحاولت الحكومات المرشحة للانضمام إلى الشراكة تصحيح هذا الخطأ عن طريق تنظيم ملتقيات لمناقشة المشروع، لكن هذه المبادرة كانت هي نفسها موضع نقاش.
لقد لاحظ ممثلو منظمات المجتمع المدني أن 93% من الاجتماعات التي نظمت لمناقشة مشاريع الشراكة جرت مع ممثلي الشركات والمصالح الاقتصادية الكبرى، وأن 7% من هذه الاجتماعات فقط خصصت لممثلي المجتمع المدني.
فضلاً عن نقد نمط المشاركين والمشاركات في هذه اللقاءات، فقد كان هناك نقد لطبيعة اللقاءات التي تمت.
هنا لوحظ أنه أتيحت لممثلي الشركات الكبرى والقطاع الخاص مناقشة مشروع الشراكة قبل أن يتبلور، وأن المناقشات أسهمت في بلورة صيغته النهائية.
بالمقابل، فإن الدعوة التي وجهت إلى ممثلي المجتمع المدني كانت بقصد التداول معهم بالمشروع بعد أن تمت بلورته، وأن قسماً من النقاش مع هؤلاء انصب على كيفية تسويق المشروع.
وربط ناقدو الدعوة بين تستر الإدارة الأمريكية على مشروعي الشراكة الأطلسية والمتوسطية، وبين العديد من المواد والتفاصيل التي تضمنها.
فقد لاحظ بعض الناقدين أن المشروعين يكثران من الأحاديث عن الأرباح والجهات التي ستجني الأرباح بتحقيق المشروعين، ولكن من دون الاهتمام بالخسائر وبالذين سيخسرون من جراء تحقيق الشراكتين.
وتوقف ناقدون من الحزب الديمقراطي الأمريكي نفسه، ومن أحزاب حاكمة في دول الاتحاد الأوروبي، أمام الخسائر التي ستلحق بالعمال من ذوي الياقات الزرقاء، وطالبوا باعتماد سياسة تعويض الخاسرين بما يساويهم بالرابحين من المشروعين.
تركزت هذه المناقشات على تفاصيل مشروعي الشراكة، وهذه التفاصيل مهمة ولا شك، ولكن عندما يتعلق الأمر بمشروع من حجم الشراكتين العابرتين للقارات، فإن الشيطان لا يكمن في التفاصيل، بل في الجوهر والمبادئ العامة للمشروع.
ذلك أن مشروعاً من هذا النوع سوف يؤدي إلى اختلال عميق في النظام الدولي، وإلى تعميق الطابع الآحادي لهذا النظام، وهو طابع يرتكز إلى زواج بين سلطان المال والقوة العسكرية، وإلى هيمنة من يملك الكثير منهما.
ولا يحتاج المرء إلى أبحاث مطولة لكي يستنتج أن الدول العربية سوف تدفع ثمناً غالياً لقيام نظام الأحادية الأطلسية.
فمثل هذا النظام كان أقرب إلى اتباع سياسات الإلحاق والهيمنة في المنطقة، بدلاً من اتباع سياسة التعاون واحترام مصالح وتطلعات العرب المشروعة.
وبصرف النظر عن التجارب التاريخية التي تدعو إلى التخوف من مشاريع من هذا النوع، فإن منطق السياسة الدولية الطاغي راهنياً هو منطق «مجتمع الفوضى»، وهذا الواقع في حد ذاته مدعاة للحذر.
وبحسب هذا المنطق فإنه من الطبيعي أن تتجه كل دولة/دول إلى مراكمة عناصر القوة التي تملكها. وفي أكثر الحالات يكون ذلك على حساب غيرها من الدول.
وبإمكاننا، ولا شك، أن نعارض مشروع الآحادية الأطلسية لأنه يقوم على الاحتكار ويغلق الباب في وجه المنافسة بين الأمم والشعوب.
وعندما تسعى جهة دولية إلى بناء عالمي يقوم على احتكار جهة واحدة للقوة المادية والعسكرية، فإنه يصبح من الطبيعي أن يسود المجتمعات الأخرى، ومنها المجتمعات العربية، القلق وأن يتذكر المرء عندها مقولة اللورد الإنجليزي الشهيرة: الاستبداد يفسد.
الاستبداد المطلق يسبب الفساد المطلق.
ومن حق الدول العربية، ومن الطبيعي أن يصيب القلق الدول الصغيرة والمتوسطة إذا تحكم الاستبداد المطلق، مهما كانت جنسيته وهويته في المجتمع الدولي.
ولكن هذه المشاعر لا تفيد إذا لم تكن حافزاً للدول الصغيرة والمتوسطة لكي تعزز قواها وتفيد إلى أقصى حد من مجالات التعاون مع بعضها بعضاً عبر إقامة تكتلات إقليمية ذات شأن.