اطلس- القدس ثالث اقدس المدن اسلاميا بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة , اذ انها قبلة المسلمين الاولى , وموطن الاسراء والمعراج الشريفين وارض المحشر والمنشر , ومسجدها الاقصى المبارك احد ثلاثة مساجد لا تشد الرحال الا اليها كما ورد في حديث المصطفى – صلى الله عليه وسلم
الذي امر المسلمين بزيارة مسجدها الاقصى والصلاة فيه , واوصى من لم يستطع زيارته والصلاة فيه ان يرسل زيتا اليه لتسرج به قناديله . وكان الحجاج المسلمون عبر التاريخ يزورون بيت المقدس للصلاة في مسجدها , اما من خلال توجههم الى الديار الحجازية لاداء فريضة الحج , واما عقب انهائهم اداء مناسك الحج , للتبرك بزيارة هذا المسجد وقد ظل هذا الامر سنة يتبعها الحجاج القادمون من شتى بقاع الارض حتى حرب الخامس من حزيران عام 1967 .
كما ان القدس – مسيحيا - اقدس المقدسات حيث انها تحتضن كنيسة القيامة التي بنيت فوق الجلجلة , وهي الصخرة التي يعتقد المسيحيون ان عيسى- عليه السلام – صلب عليها , كما انها تضم القبر المقدس الذي دفن فيه السيد المسيح , وحملت اسم القيامة نسبة الى قيامة المسيح – عليه السلام – من بين الاموات في اليوم الثالث , من الاحداث التي ادت الى موته على الصليب.
وتضم المدينة المقدسة درب الالام , وهو الدرب الذي سلكه السيد المسيح – حسب الاعتقاد المسيحي – حاملا صليبه يوم ساقه الجنود الرومان للصلب , بعد ان حكم عليه الوالي الروماني بالموت , وهو يتكون من اربع عشرة مرحلة تسع منها خارج كنيسة القيامة , وخمس في داخلها , وهناك ايضا " العلية " التي تقع على جبل صهيون , حيث تناول المسيح مع تلاميذه عشاءه الاخير , هذا عدا عن العديد من الاماكن الاخرى المقدسة لدى المسيحيين التي تضمها المدينة المقدسة .
وقد ازداد اهتمام العرب والمسلمون بالمدينة المقدسة عقب حرب حزيران عام 1967 , وسيطرة اسرائيل عليها وضمها الى القدس الغربية للاعتقاد انهما " العاصمة الابدية لاسرائيل " , حيث كانت انظار العرب والمسلمين ترنو الى القدس ومسجدها الاقصى المبارك وكنيسة القيامة , وغيرها من المزارات الدينية الاسلامية والمسيحية , وكانت الاذاعات العربية ومحطات التلفاز كذلك - ولم تكن الفضائيات انذاك قد عرفت , تذيع باستمرار الاناشيد والقصائد التي تتغنى بالمدينة المقدسة , خاصة اغاني فيروز الرائعة " شوارع القدس العتيقة وزهرة المدائن "
ولكن بعد حرب تشرين الاول – اوكتوبر – عام 1973 واعقبها توقيع اتفاق " كامب ديفيد " بين مصر واسرائيل , وبدء مرحلة الحروب الاهلية العربية , مثل الحرب اللبنانية التي استمرت خمسة عشر عاما , ودخول الانظمة العربية في نزاعات وخصومات سياسية , ثم نشوب الحرب العراقية – الايرانية التي استمرت ثمانية اعوام , وما اعقبها من احتلال صدام حسين للكويت ونشوب حرب الخليج الاولى ثم الثانية , فتر اهتمام العرب بالقدس , ولم يعودوا يولونها الاهمية التي تستحقها , وهكذا دخلت المدينة المقدسة مرحلة النسيان , والاهمال عربيا واسلاميا , حيث اعرض العرب والمسلمون عن مدينتهم المقدسة , وسيطرت الروح القطرية على العالم العربي , الا ان الاردن كان استثناء في ذلك , حيث للقدس مكانة مميزة لدى الهاشميين , توازي مكانة العاصمة عمان , ورغم ان العاهل الاردني الراحل الملك الحسين بن طلال اعلن فك الارتباط بين الضفتين: الغربية والشرقية , بعد اعتبار الجامعة العربية منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني , الا انه استثنى القدس من ذلك , وظل امينا عليها ووصيا على مقدساتها , وهذا ما شدد عليه عندما وقع اتفاق السلام مع الجانب الاسرائيلي .
وقد سار العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني على سيرة اجداده الهاشميين بالنسبة للقدس , وقد اكد هذه الوصاية في الوثيقة التي وقعها مع الرئيس محمود عباس , ولا زال الاردن , رغم ضائقته المالية – ملتزما برعاية الاماكن المقدسة , ويدفع رواتب موظفي المسجد الاقصى المبارك والاوقاف والمحكمة الشرعية في القدس , ويدافع عن المسجد بكل قوة في وجوه اطماع اليمين المتشدد , كما انه في الاونة الاخيرة , فان العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني امر بتجديد فرش " مسجد الاقصى ومسجد قبة الصخرة بسجاد فاخر من حسابه الخاص , وذلك اتماما لمكرمة والده الراحل الملك الحسين بن طلال - الذي باع قصره في العاصمة البريطانية من اجل ان يكسو قبة مسجد الصخرة المشرفة بالذهب , ما اعطاها هذا التألق الذي يشع في سماء المدينة المقدسة .
والامر المؤسف والمؤلم ان مناشدات الرئيس محمود عباس للقمم العربية وللقادة العرب وللجامعة العربية من اجل المحافظة على الطابع العربي والاسلامي للقدس ولدعم المقدسيين لم تجد الا قليلا من الاستجابات حيث ان اكثر الدول العربية لم تنفذ ما التزمت به من مساعدة المقدسيين ودعم صمودهم ماليا ولم تعد الجامعة العربية ولا لجنة القمة العربية تذكر شيئا عن مبلغ ال500 مليون دولار التي قررتها القمة العربية في مدينة سيرت الليبية عام 2010 وحتى الان ورغم مروم خمسة اعوام لم يصل دولار واحد للمدينة المقدسة من تلك ال 500 مليون دولار .
وهكذا تزداد اوضاع المقدسيين سوءا في كافة النواحي الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والامنية , حيث ان سكان المدينة المقدسة يعانون ازمة سكانية خانقة , خاصة داخل المدينة المقدسة , حيث تتكدس الاسرة الواحدة في غرفة واحدة او غرفتين , كما ان الكثير من الشباب لا يستطيعون الاقدام على الزواج لعدم العثور على مسكن , خاصة وان اجرة الشقق السكنية خارج اسوار القدس , خاصة في احياء شعفاط وبيت حنينا ووادي الجوز بلغت ارقاما فلكية , لا يكاد يغطي راتب الشاب كله هذه الاجرة , عدا ما يتبع ذلك من ضرائب " الارنونا " وفواتير الكهرباء , والماء واجور المواصلات , كل هذا ادى الى حدوث مشاكل اجتماعية خانقة .
وجراء الاوضاع المعيشية الخانقة والتكدس السكاني في الغرف والمنازل , انتشرت ظاهرة المخدرات , هذه الافة الخطيرة التي تفتك بشباب في مقتبل العمر وزاد الامر سوءا وجود فتيات يتعاطين المخدرات , وذلك في غياب الرقابة الاجتماعية , وجراء الانفلات الامني في المدينة المقدسة , وهذا الانقلاب الامني الخطير ادى الى وجود ظاهرة البلطجة والزعرنة والشجارات لاتفه الاسباب , وهذه الشجارات تؤدي احيانا الى ما لا يحمد عقباه , حيث تنعكس على اسر المتشاجرين والمتنازعين , وقد تؤدي الى سفك دماء ووقوع قتلى , بل واخطر من ذلك حدوث فتنة طائفية , كما حصل مؤخرا في المدينة القديمة , جراء شجار بين مجموعتين من شباب لا يقدرون خطورة الفتنة الطائفية- بين فئة من الشباب المسلم والشباب المسيحي .
ان الاخوة الاسلامية – المسيحية بين ابناء الشعب الفلسطيني ضاربة جذورها في اعماق التاريخ منذ ان وطأت اقدام الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه – ارض بيت المقدس ووقع مع البطريرك صفرونيوس " العهدة العمرية " ولذا فهي خط احمر لا يجب لأحد ايا كان ان يخترقه او ان يتجاوزه , ويجب وقفه وبحزم عند حده , فالشعب الفلسطيني من ارقى الشعوب العربية , ان لم يكن هناك ارقاها واكثرها وعيا وثقافة , ولن يقع في هذه الفتنة التي وللاسف وقعت فيها كثير من الشعوب والاقطار العربية اليوم .
واما الاوضاع التعليمية فهي ليست احسن حالا في القدس , فالمستوى التعليمي فيها في ادنى درجاته , ذلك ان العملية التعليمية اصبحت لدى الكثير من المدارس تجارة تدر الاموال الطائلة , ولم تعد مهنة جليلة هدفها تخريج اجيال واعية , فأصبحت ترى في الصفوف الثانوية من لا يعرف كتابة اسطر قليلة في موضوع من المواضيع . هذا عدا عن الازدحام الخانق في كثير من الصفوف , كما ان العديد من المدارس او الصفوف لا تصلح للدراسة .
وبالنسبة للاوضاع الاقتصادية في القدس فهي من السيىء الى الاسوأ , حيث يعاني التجار من كساد كبير وضرائب باهظة متنوعة لا ترحم , ولا تجد في القدس مشاريع تجارية تقلل نسبة البطالة بين المقدسيين وتحسن اوضاعهم الاقتصادية وتعينهم على البقاء في مدينتهم المقدسة .
والمضحك المبكي انه يوجد هناك اناس وفئة صغيرة تدعي علمها بالاقتصاد وتحاول التواجد بمؤتمرات اقتصادية من اجل الظهور علما انهم بعيدون كل البعد عن الاقتصاد ويعتقدون بانهم يحاولون تضليل القيادة والمجتمع المقدسي من اجل مصالح شخصية ولا يلتزمون بما يقولون .
والاسوأ من ذلك عدم وجود مرجعية مقدسية واحدة وموحدة يلجأ اليها المقدسيون لمعالجة مشاكلهم التي تتفاقم يوما بعد يوم وتزداد سوءا . فلا ينزل مسؤولو ملف القدس في السلطة الفلسطينية لتحسس اوضاع المقدسيين , ولا الى عمل احتواء وحل المشاكل الخانقة التي تعصف بالقدس والمقدسيين , ان المقدسيين يريدون ان يروا اولئك المسؤولين بينهم وليس في المؤتمرات الاعلامية والتصريحات الصحفية , يريدون ان يرونهم كما كان القائد فيصل الحسيني - رحمه الله- ينشط في كل الاتجاهات , حيث كان ملجأ لكل المقدسيين في كل مشاكلهم . واخيرا فان على الدول العربية والاسلامية ان تسارع الى اعادة ملف القدس الى اولوياتها وان تدعم المقدسيين فعلا لا قولا , كما ان على وزارة القدس في الحكومة الفلسطينية ان تتناول مشاكل المقدسيين وتسعى الى حلها , ولا بد من مرجعية مقدسية موحدة تضم شخصيات المدينة ورجالاتها , فهل ذلك قابل للتحقيق على ارض الواقع ؟ الايام القادمة هي الكفيلة بالاجابة عن هذا السؤال , والله الموفق .