اطلس- لم يكن لدى العرب الكثير الذي يحسدون عليه عندما قال كاتب بريطاني عاش في القاهرة وبغداد زمنا إنه يحسد الكاتب العربي لأنه يجلس على فوهة منجم شبه اسطوري ولديه من القضايا ما يدفعه الى أن يتمنى لو أنه يعيش أضعاف عمره، وحين سئل الكاتب الفرنسي ميشيل بوتور اثناء اقامته في القاهرة عما لديه كي يقوله اجاب ان على الرف من الخبز المصري ما يكفيني مائة عام.
لكن واقع الحال غير ذلك تماما، فمنذ أعوام بدأ الاستشراق يمارس دوره من جديد بما يناسب هذه الحقبة التي شهدت حروب ما بعد الحداثة، كما شهدت اندلاع حروب اهلية منها ما بقي يراوح على الحافة بانتظار مناخ مناسب ومنها ما أتى على الاخضر واليابس.
إننا الآن نقرأ عما يجري في واقعنا العربي لكتّاب ومراسلين صحفيين اعادوا انتاج الموروث الاستشراقي لكن بأدوات وتقنيات جديدة، مستفيدين الى أقصى الحدود من تكنولوجيا التواصل ومن حالة الخمول والاستنقاع التي عمت هذه المنطقة لعدة عقود. اليوم نقرأ عن رام الله وتفاصيل الحياة فيها وعن السلطة الوطنية بالفرنسية، بعد ان اصدر الكاتب الصحفي بنجامين بارت كتابه المثير حلم رام الله، وكذلك نقرأ عما يحدث في سوريا ولبنان بالانجليزية بعد أن أصبحت مؤلفات روبرت فيسك من الكتب الأكثر رواجا في هذا السياق، تماما كما حجب عنا برنارد هنري ليفي كل الحقائق عما جرى في ليبيا! ونقرأ توماس فريدمان ومبادرته لحل قضايانا وهو الذي قال بإننا اقرب الى شرائح البطاطس من شرائح الكمبيوتر!
واخيرا داعش، فالكتاب الجديد الذي وصف بأنه شامل وجذري صدر حديثا للكاتب والمراسل الصحفي باتريك كوكبيرن، بعنوان "داعش وعودة الجهاديين"،
ما كتبه بارت عن رام الله لم يرق للكثيرين منّا، لأنه اخترق قشرة المسكوت عنه سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فكانت معظم الردود عليه رغم ندرتها تتصدى لأطروحته بالجملة ويبدو ان هناك من قرأوا العنوان فقط او كلمة الناشر على الغلاف.
وبرنارد ليفى تولى الرد عليه بقوة الن غريش رئيس التحرير السابق لصحيفة لوموند ديبلوماتيك، وكتب فصلا تحت عنوان "ليفي ليس فكتور هوغو" أثبت فيه بطلان معظم ما صدر عن ليفي سواء بالنسبة للحراكات العربية فيما سمى الربيع وهي تسمية كاريكاتورية لربيع اوروبا في منتصف القرن التاسع عشر او ما تعلق بالعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة.
والكتاب الذي بين يدي الآن عن داعش لباتريك كوكبيرن ليس مجرد هجاء او توصيف لوحشية هذا التنظيم المتطرف بل هو تحليل للظاهرة بدءا من الجذور واول ما يستوقفنا في هذا الكتاب الطازج هو تكذيب المؤلف لصحفيين وجنرالات وساسة حجبوا الحقائق الميدانية في العراق منذ احتلاله مرورا بسوريا في ذروة الازمة وليس انتهاء بليبيا - يقول مثلا ان ساسة واشنطن غالبا ما يعلنون عكس ما يبطنون وعلى سبيل المثال يتخاصم الامريكيون علنا مع ايران لكنهم يتفقون وراء الكواليس وفي الخفاء بعيدا عن الكاميرات ويستشهد بخطاب لوزير الخارجية جون كيري في مجلس الامن قال فيه ان هناك متسعا للجميع، وكان ذلك بمثابة تمهيد مبكر للمفاوضات مع طهران واذابة الحاجز الجليدي الذي كان يقبع خلفه الشيطان، وعن سيطرة داعش على الموصل عاصمة العراق الشمالية والتي تسمى في التقاويم العراقية ام الربيعين، يقول مؤلف هذا الكتاب: كانت الدولة العراقية تملك في تلك المواجهة ثلاثمة وخمسين الف جندي، انفقت عليهم اكثر من واحد واربعين مليار دولار خلال ثلاث سنوات فقط، ولم تكن داعش تملك اكثر من الف وثلاثمائة مقاتل في هجومها على الموصل، لكن قوة الجيش العراقي تلاشت دون اي مقاومة وتحولت المعدات والآليات العسكرية الى غنائم، وداعش بالنسبة للكاتب الذي تجوّل كثيرا في شعاب هذه المنطقة هي كما أعلنها قائدها ابوبكر البغدادي حين قال بالحرف الواحد: انها دولة العربي وغير العربي، الأبيض والأسود، لهذا فان سوريا ليست للسوريين وكذلك العراق ليس للعراقيين فالأرض كلها ملك لله وحده.
هنا، نجد تصريحا بالغ الوضوح ولا يقبل التأويل لما تفهمه التنظيمات الدينية المتطرفة عن الوطنية، فهي بدءا تلغي مفهوم الوطن وكل ما يتعلق بالهوية وهذا قد يكون لصالحها لبعض الوقت ويساعدها على اجتذاب واصطياد الالاف من مختلف الجنسيات لكنه في النهاية عقب آخيلها ومقتلها، والزعم بأن عقيدة قتالية واحدة تجمع هؤلاء القادمين من هوامش القارات يخفي حقيقة اخرى، مضادة هي ان ما يجمع هؤلاء هو الوَعْد بالمال والسّبي والانتقام والغنائم، ولو كتب باتريك كتابه هذا بعد صدور العدد الاخير من مجلة داعش وهي بعنوان دابق وباللغة الانجليزية لأراح نفسه من عناء البحث، لأن المجلة تعلن عن افتتاح اسواق للنخاسة تباع فيها الصبايا السبايا لمن يملك الثمن.
إن داعش ومثيلاتها من السلالة ذاتها تعلن بلا تردد ان الاعلام هو نصف الحرب، لهذا دشنت ما يسمى حرب الفيديوهات بسلسلة من المشاهد التي يقصد بها الترويع، او ما سماه طبيب نفسي فرنسي رفع منسوب الادرينالين فهي تقدم متوالية من الجرعات المتصاعدة، بحيث تجد نفسها في كل مرة مطالبة بالمزيد، فالذبح لم يعد يكفي لهذا اعقبه الحرق كما حدث للطيار الاردني معاذ الكساسبة وثمة بالتأكيد سيناريوهات اخرى تتجاوز ذلك.
إن استراتيجية داعش كما يقول باتريك هي السعي كالافعى بين الصخور، وتتلخص هذه الاستراتيجية في الكر والفر لكن على نحو مغاير لما هو مألوف في هذه المسألة، وهي ايضا تتهرب من أي معركة طويلة الأمد، ولدى هذا التنظيم الارهابي دراية واسعة بالأحوال الاجتماعية لكل من العراق وسوريا بالتحديد، فعلى سبيل المثال فقط عندما دخلوا الى مصفاة بيجي في شمال العراق كانوا يعرفون عدد الفتيات غير المتزوجات وينادون عليهن بالاسماء لأن مقاتليهم غير المتزوجين وعدوا باكمال نصف وحشيتهم وليس نصف دينهم عن طريق ما يسمى نكاح الجهاد وهو اسم مخفف للاغتصاب بالقوة!!
ومن أهم ما يقوله باتريك في كتابه الصادر حديثا عن داعش، هو ان تقسيم العراق وسوريا يتم بالاسلوب الذي قسمت فيه الهند عام 1947 حينما انشأت المجازر حدودا ديموغرافية جديدة رسمت تضاريسها وخطوط طولها وعرضها بالدم يقول الكاتب ايضا ونقلا عن ضابط مخابرات برتبة كبيرة من بلد مجاور لسوريا ان داعش يسيل لعابها الدموي السام كسمكة القرش كلما سمعت ان هناك اسلحة في الطريق الى المعارضة السورية لأنها سرعان ما تحصل عليه اما بالتهديد او بالشراء!
اخيرا، هل نحن نعيش بالفعل على فوهة منجم يحسدنا عليه الاخرون، كما قال ذلك البريطاني، ام ان الاستشراق بعد ان تمت عسكرته اعيد انتاجه بحيث ينوب عنا فاعلون ومفعولا بهم ومفعولا لأجلهم؟
إننا اشبه بذلك الصياد البائس الذي يعود الى زوجته واطفاله بعد الغروب بعلبة سردين رغم ان البحر أمامه يعج بكل انواع السمك والكائنات المائية!.