اطلس- يركن سيارته على طرف الطريق. يستلّ هاتفه الذكي. يتفقّد الصور واحدة بعد الأخرى. يمحو بعضها. يحفظ صوراً جديدة. لكل «دولة» صور وطقوس... و»إمارات». يقف عند إشارة المرور الحمراء،
يحميها عنصر الشرطة. لم يكن مستعجلاً لرؤية ضوء الاشارة الأحمر يتغير. يأتي الاخضر حاملاً معه قشعريرة الجلد وأوجاع الرأس. تبدأ رحلته العبثية من دمشق عاصمة «الجمهورية العربية السورية» الى معضمية الشام. بضع مئات من الأمتار. من عالم الى عوالم. يقسو مقود السيارة ويصبح بارداً. كلما اقترب من الحاجز يزداد توتراً. قلبه تركض نبضاته وجلده يتسلل العرق منه غزيراً. انسحاب رائحة البارود يزيده توتراً. لقد ألفها. باتت فقاعة أمان، يعيش فيها. يتنفس رائحتها. لا يخاف من أزيز الطائرات. يعرف مناورات المروحيات.
يقترب من الحاجز الاول لقوات النظام. عندما يتذكر إسم الجهة التي يتبع إليها الحاجز الامني، يزداد قلبه خفقاناً. يأتي دور سيارته. عنصر الحاجز الامني ينظر الى عينيه. لقطة جانبيه حادة الى عينيه. يؤشر بيده الى الامام. تتحول الارض بعدهاً وادياً. لم تعد تلةً تهلك الروح. الحاجز الاول تابع للاستخبارات. «تيسرت» الامور. عشرات الامتار تفصله عن حاجز «قوات الدفاع الوطني». نظموا انفسهم. كان يتذكر أن معارضين أطلقوا عليهم إسم «الشبيحة» ثم «اللجان الشعبية». أما الآن، فاصبحوا «قوات الدفاع الوطني». عدد من «الغيورين» على حيهم وأهلهم شكّل هذه اللجان. مثله مثل الحاجز السابق، برميل وعلم. نعم برميل. هذا غير «البراميل المتفجرة» التي تترّنح في طريقها من السماء. برميل دُُهن بلون العلم السوري. ايضاً، هذا البرميل سُمر في الحاجز الثالث. لكنه انظف. ألوانه طازجة. عناصره اطول. عضلاتهم اوضح. بطاقة الهوية حاضرة. هاتفه النقال جاهز. استعداد يليق بحاجز تابع للفرقة الرابعة في الحرس الجمهوري. العناصر مهتمون بالبطاقة. وجه مألوف وغير مألوف. يمر على هذا الحاجز يومياً. يعرفونه ولا يعرفونه. يمد العنصر «الجمهوري» يده الى حلق السيارة. يأخذ البطاقة. يذهب. يذهب. يذهب. يطلق أحرف اسمه على قاعدة الكومبيوتر. يتجمد الزمن. يدخل الى الثلاجة. يتأخر في العودة ويتأخر الاوكسجين في الطريق إلى شرايينه.
يرمي بوجهه الى الجانب الآخر. لا يريد ان يرى الحاجز المقابل. لم يكن محظوظاً بالهدنة التي انجزت قبل اكثر من عام في معضمية الشام. هدنة بين النظام والمعارضة. اجبار على الانتقال من دون انتقال سياسي. يمشي ببطء. يبتعد «منهم» ويقترب من «الآخرين». امتار. ينتصب برميل آخر. لو سُئل هنا عنه، لقال: علم الانتداب. لكنه يهيئ نفسه الى الولوج الى «عالم الثورة». الحاجز الاول لـ «الجيش الحر». ينزل يفتح صندوق السيارة. «كما فعلت هناك تفعل هنا»، يقول له. لا يمكن إلا أن يستجيب. الكلاشنيكوف موجود. والمقابر مكتظة. يعبر السد الاول والثاني. يقترب من الثالث. فجأة يكتشف احدهم انه يعمل في وزارة البيئة. «انت عميل للنظام». يزج به في السيارة. يجلس عنصر إلى يمينه وعنصر إلى يساره. تماماً كما عرف عناصر القمع. الى المكتب الامني لـ «الجيش الحر». كيف تثبت انك ثوري. لا مجال للنيات. قال له: «النار (جهنم) مليئة بأصحاب النيات الطيبة».
ذات ليلة. قبل ٢٠١١. كان هناك لقاء في مكتب رئاسة مجلس الوزراء بين القائد الامني لـ «الجيش الحر» الحالي الذي كان مسؤولاً قبل ان ينشق، و»عميل النظام» الحالي. اشارات تلك الليلة، انقذته. لا بل حمته. يتحول من «خائن» الى «ثوري». يحمل الى الاكتاف الى منزله. يتفقد أشياءه وحاجاته. يتفقد الحفر والطاقات في منزله. يتفقد بصمات الغارات و»البراميل». يترك ما تبقى من ذكرياته ويستعد لرحلة العودة الى «منطقة النظام».
عاد الى بوابة العاصمة. تجرأ على استعراض الانترنت. الوسيط بين النظام والمعارضة، يسلم نسخة جديدة لاتفاق جديد: لفك الحصار لا بد من «حل جميع فصائل الجيش الحر» ومنع ارتباطها بالخارج ودخول «جميع مؤسسات الدولة من دون استثناء» الى معضمية الشام.
على أطراف الطريق. شباب بلباس عسكري في كل مكان. مسدس على الخصر. يتعرفون الى المدينة. شوارع المدينة. بنات المدينة. مقاهي المدينة. يركن سيارته. يمشي هذا «العائد الى حضن الوطن» بين الاوساخ المرمية التي صارت أكواماً هذه المرة. اكثر من العادة. نازحو الريف الدمشقي ضاعفوا عدد السكان. عائلات كثيرة في بيوت قليلة. افراد كثر في غرف صغيرة. احسن من الحدائق. الحدائق؟ تلك التي كانت تزين شوارع دمشق، لم تعد موجودة. موجودة، كمكان للنزوح. لا جدران. لا مياه. لا طيور. لا بط يسبح في برك الماء. كثير من الاكياس والروائح. روائح لا تشبه اريج الياسمين. حرمت الحدائق، كغيرها من معالم المدينة، من النور. لا كهرباء في هذه المدينة. لا مازوت في هذه المدينة. لا خبز في هذه المدينة. هذه المدينة هي عاصمة بني أمية ثم «سورية الطبيعية» ثم «الجمهورية العربية السورية».
وجوه من شمع. تعايشت من القذائف القادمة من الريف. من «جيش الاسلام». قذائف تعرقل موقتاً إيقاع الحياة، لكنها لا توقف الحياة. أحياناً، يكون الرد بمزيد من الحياة. المبالغة في العيش. التعايش مع الموت. الرقص مع الموت. لا عجب ان تكتظ المطاعم والبارات بالمتمردين على الموت والمتنفعين من الموت والذاهبين الى الموت.
حراثة السماء
السماء عالم آخر. طائرات تحرث أرض السماء جيئة وذهاباً. سيوف من الدخان تغرز في بطن السماء. ترمي بما تحمل الى المكان البعيد. وبات المكان البعيد قريباً. بدأ قائد «جيش الاسلام» إرسال صواريخه الى دمشق. هل هناك صحة لمعادلة: ابن الريف وابن المدينة. ابن الشام وابن الغوطة. «التجار» و»الفلاحون». أما قاسيون، فانه مصدر الحمم الى اطراف دمشق. بات الدمشقيون، وساكنو دمشق، خبراء: هذه ضربة مدفع. هذا صاروخ. هذه قذيفة. تلك غارة. من هنا الى هناك.
عالم السماء شيء وعالم الارض أشياء. تخرج سيارة مليئة بالخضار من قلب دمشق، من سوق الهال وسط العاصمة. تعبر حاجزاً لقوات النظام، عسكرياً أو أمنياً، أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً. تصل الى بوابة الغوطة الى «دولة زهران» في مدينة دوما. تفرغ بضائعها في «الاراضي المعادية» «ارض الارهابيين» في «البيئة الحاضنة للارهاب». سيارات محملة بالبضائع تذهب من «مناطق النظام» الى «مناطق المعارضة» من المحاصَر الى المحاصِر. عندما يُسأل المسؤولون السوريون، يقول أحدهم: «اننا نستنزف المعارضة. تأتي الدولارات من الدول الداعمة للارهابيين، وأفضل شيء ان نجعلهم يصرفونها على هذه الامور بدل السلاح». لا يقول ان شبكة من «تجار الدم» و «أمراء الحرب» ترسخت وتعززت في السنوات الاربع الماضية. شبكة تغلغت في النظام. نبت السماسرة كالفطر في مستنقع الدم السوري. يجب فرض سعر الصرف للدولار الاميركي مقابل الليرة السورية عند هذا القدر. فجأة امتلأت جيوب هؤلاء. لا مصلحة لديهم ابداً في فك الحصار عن دوما ولا في خطة قد يقترحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لـ «تجميد» القتال في دوما. هو يظن ان «توازن الردع» بين صواريخ «جيش الاسلام» وطائرات النظام مدخل الى البحث عن تهدئة. حال هذه المعادلة كحال معادلة حمص. لم يفكر بعد باقتصادات الحرب وتجار الموت.
رائحة الموت
هنا حي الوعر في حمص. انها «عاصمة الثورة». هل هناك أكثر من «انتصار» للنظام بعد اتفاق التهدئة في حمص القديمة! بعد السيطرة على أحياء حمص الثائرة وريف حمص الثائر. استعادة ما تبقى من ابنية. أرض من دون بشر. ابنية من دون حجر. حان للبعض وقت فرض هدنة بعد حصار على آخر أحياء حمص. انه حي الوعر. صحيح هذا في منطق الصراع الثنائي. لم يعد ثنائياً. متعدد الجوانب. يتفاوض مسؤول أمني كبير قادم من دمشق مع ممثلي المعارضة. عظيم. كلما اقترب الطرفان من توقيع اتفاق نهائي، يسقط صاروخ على طاولة المفاوضات. من القاصف؟ على طرف حمص، هناك «قوات الدفاع الوطني». هناك حاجز. كان هذا الحاجز، لا يزال، يتحكم برقاب عشرات آلاف المحاصرين. لا يحاصرهم لأسباب سياسية. عمولة ادخال ربطة الخبز والمواد الغذائية، مصدر رئيسي للربح. أمام هذا الحاجز، كما هي الحال أمام حواجز معضمية الشام ومناطق «المصالحات الوطنية» وبوابات المناطق المحاصرة، لا تجد اسلحة مصادرة. لا ذخائر. جثث بشر وليس مقابر اسلحة. هناك خبز وخضار ومواد غذائية. وبعض الجثث. حصاد كل يوم، تلة من هذه المواد قرب كل حاجز. في المساء، تأتي السيارات وتنقل الغنائم الى سوق مخصصة لتجارة المصادرات.
شاءت اقدار الشرق الاوسط الرهيب ان الاساسيين في «قوات الدفاع الوطني» هم من الشيعة من بلدتي المزرعة والرقة. أيضاً، بـ «الصدفة» ان العناصر تدربوا في ايران. تدربوا مع زملاء من السنّة انتشروا في مناطق اخرى. شاءت الاقدار انهم يرفعون اعلاماً غير سورية. شاءت ان الاتصالات الهاتفية تأتيهم من ارقام غير سورية. شاءت انهم يضعون صوراً على صدورهم ليست لقادة سوريين. لكنهم يتحدثون العربية باللهجة السورية. لا يأبه هؤلاء بـ «رائحة الموت» المزروعة في حمص. حي الخالدية وغيرها. «هل تشبه صور الحرب العالمية الثانية؟». يأتي الجواب: «اكيد تمزح»، يقول شخص زار هذه الاحياء. يضيف: «ابنية مدمرة، سويت بالارض. مهجورة. دائماً تسأل نفسك: اين البشر؟ اين الناس؟ تشعر ان كثيراً من الجثث معجونة بالاسمنت». لأول مرة يختبر هذا الشخص رائحة الموت. نعم للموت رائحة. كما للحياة ألوان. نهضت من شقوق الدمار، زهور. لا يعرف مما ارتوت. لا مياه ولا سواقي وينابيع. سالت دماء. على بعد أمتار. وراء «الجدار العازل»، هناك أحياء وأبنية وحياة... كأن شيئاً لم يكن.
نعم، للموت رائحة وللنزوح رائحة. على المقلب الآخر من الحدود مع لبنان. هرب الآلاف من جحيم الحرب. كانوا يظنون انها ايام ويعودون الى القصير او الخالدية او الوعر. مر الزمن. الموقت يتحول الى دائم. صعب الانتظار. بات المخيم يكبر ويتوسع. لكل مخيم «شاويش». باتت المخيمات تسمّى باسمه. من فجوات الخيم تبدو الحدود. تبدو تلال سورية. مع مرور الوقت تزداد
بعداً.
الكاميرا تصور الالام. الاذاعات تنقل الكلمات. لكن، ليس للرائحة صوت ولا صورة. خليط من الروائح التي تفوح من المخيمات. مجارير الصرف الصحي. جثث حيوانات متعفنة. روث حيوانات أخرى. وحل. رماد الحرائق. حريق الخشب وروث الحيوانات وأكياس البلاستيك. كلمات تعجز عن نقل الروائح. وسط هذه يعيش بشر. يتعلم أطفال. ينامون. يحلمون. ينتظرون. أما الكبار، قليل من الرجال وكثير من الارامل يحدقن في السماء. مشدوهات: ماذا حل بنا؟
انفاق... واتفاق
قرر شخص أجنبي ان يركب عباب المغامرة. لا بأس من السفر من دمشق الى حلب. من العاصمة السياسية تاريخياً الى العاصمة الاقتصادية. من مدينة «الكتلة الوطنية» الى «حزب الشعب»، من مدينة كانت توشح بالياسمين الى أخرى كانت تصنع صابون الغار، من سوق الحميدية والحريقة الى حلب القديمة، من باب توما الى منطقة السيسي. كل شيء مرتب. لا وقوف على حواجز الامن التابعة للنظام. تخرج من دمشق. حرستا على يمين الطريق. «حرستا؟»، تسأل. يقول: «لا ما تبقى من حرستا». تحت هذه الطريق حيث بوابة دمشق الشمالية، حفر المعارضون نفقاً. يربط غوطة دمشق ببرزة البلد. نفق كخيط بين عالمين. بين الموت البطيء والموت السريع. كان مقرراً ان يستخدم للهجوم على قوات النظام أو فك الحصار. الهدف خوض حرب تحت الارض، كما هي الحال في جوبر. في هذا الحي، الواقع في الطرف الشرقي لدمشق، هناك حرب في العالم السفلي أشد ضراوة من العالم العلوي. العلوي، بمعنى الفوقي ليس بالمعنى الطائفي. أيضاً، في مخيم اليرموك المحاصر، شبكة غير متداخلة من الانفاق تحت الابنية المدمرة. الانفاق موجودة ايضاً في داريا غرب العاصمة قرب معضمية الشام.
حرستا تربط الغوطة الشرقية لدمشق ببرزة البلد الذي وُقّع فيه أحد أهم إتفاقات المصالحة. «توازن الرعب» بين حي عش الورور الموالي للنظام بالمعنى السياسي والعلوي وبرزة البلد المعارض أو السنّي بالمعنى الطائفي لمن يريد الاستزادة. ويستطيع المهووس بالبعد الطائفي، ان ينظر الى السدود القائمة بين منطقة الشيخ سعد و»حي ٨٦» في المزة.
نفق بين حرستا وبرزة. بات مصدراً للصراع على الموارد المالية. انه بوابة «الحدود» بين «دولتين». الحل كان ان فصيلين معارضين قررا المشاركة في «ادارة» هذا المصدر الرئيسي للاموال، رسوم ادخال المواد الغذائية الى المناطق المحاصرة.
الدمار الموجود في حرستا، حدث ولا حرج، لكنه «مبالغ فيه». بين دمشق وريفها باتجاه وسط البلاد. لولا المقاتلات والمروحيات واعمدة الدخان وبعض الابنية المدمرة قرب النبك ودير عطية، لكان المرء استمتع بقدوم الربيع. بالبساط الاخضر على جانبي الطريق، الطيور والعصافير وهي ترسم الدوائر والمثلثات. لكان المرء استمتع بقوس قزح، بزرقة السماء.
الحواجز ونقاط التفتيش التابعة لقوات النظام، موجودة. لا تستطيع الحافلات والسيارات اكمال طريقها من حماة الى ادلب. الريف في شمال غربي البلاد، محسوب على «الجزء المحرر». كان مقاتلو تحالف «جيش الفتح» الذي يضم «جبهة النصرة» و «أحرار الشام الاسلامية» وفصائل أخرى سيطروا على مدينة ادلب. وكانت «جبهة النصرة» و»احرار الشام» سيطرت على معسكري وادي الضيف والحامدية قرب معرة النعمان ما عزل ادلب عن حماة. لم يبق في ريف معرة النعمان، سوى شقائق النعمان. تمد أزهار حمر برأسها بين شقوق الارض والخراب أو بين أقدام المقاتلين. ادلب المدينة دخلها مقاتلون معارضون كما دخل آخرون الى الرقة شمال شرقي البلاد في آذار (مارس) ٢٠١٣، لكن لا يريدون المصير ذاته. نشطاء مدنيون لا يريدون ان تكون ادلب عاصمة «امارة» قد تعلنها «النصرة» في سياق تنافس بعض قادتها مع اعلان «داعش» الرقة عاصمة لـ «الخلافة».
النظام كان موجوداً في ادلب واريحا وجسر الشغور. في المدن. المعارضة في الريف. النظام في السماء. المعارضة في المغاور والكهوف. تحولت المدن المنسية التاريخية ملاجئ للمقاتلين والنازحين هرباً من «البراميل» وغرفاً للخطط العسكرية. هذا ليس كل شيء. لا طعام. عودة الى العصور الحجرية. لكن شرايين النظام بقيت الى وقت قريب ممتدة في «الجسد المحرر». يركب مدرسون من جبل الزاوية طرق الموت. يذهبون الى ادلب. يعودون، اذا عادوا واخطأتهم رصاصات او غارات، حاملين رواتبهم الشهرية والخبز والامداد. أما الآن، بعد «التحرير» هناك شبكات هاتف غير سورية ومساعدات تركية.
لإكمال حلقة الرحلة الى حلب. لا بد من ريف حماة الى خناصر المنطقة التي تسيطر عليها قوات النظام من حلب. المدينة مقسمة الى «دولتين». هناك القسمة ليست طائفية: سنية- علوية. او سنية - شيعية - علوية. او دينية مسيحية - مسلمة ولا عربية - كردية. يقول رجل اعمال يقيم في منطقة تابعة للنظام: «بالكيماوي، بل بالنووي يجب قصفهم». الضمير عائد على اولئك المعارضين الموجودين في أحياء أخرى في حلب. القائل هو ابن حلب، يضيف: «كانت علاقتنا مع النظام سابقاً مصلحية. أما الان هي علاقة ايديولوجية».
في حلب «براميل» تأتي من السماء. قتلت الكثيرين. في حلب «مدافع جهنم». هناك من يريد المساواة بينهما. بين «برميل» يرمى عشوائياً من السماء و»اسطوانة غاز» تقذف. في حلب أرمن. في حلب مقاتلون توركمان. استحضار للتاريخ. قوات النظام والميلشيا في الغرب. مقاتلو المعارضة في الشرق. كان اقتراح دي ميستورا تجميد القصف على المدينة لستة اسابيع. فقط السلاح الثقيل. «براميل» ومدفعية ومدافع. ثم البدء بوقف النار في حي صلاح الدين وادخال المساعدات الانسانية وتوسيعها الى ٤٠ حياً.
العبث السوري في حلب. بعض النشطاء المعارضين في «القسم المحرر» شرق المدينة. اهلهم في مناطق النظام غرباً. بل في حي صلاح الدين، تفصل بين «الدولتين» عشرات الامتار. فقط. لا تفصل بينهما سوى ستائر تحجب الرؤية عن القناصين. الباص لم يعد وسيلة للنقل، بل لتنجنب القنص. كيف يلتقي الناشط وأهله؟ كان ذلك يتم من معبر بستان القصر قبل ان يغلق. اما الآن، فهناك خياران: اما التجرؤ على رحلة التفاف حول حلب تستمر حوالى ١٥ ساعة. تتضمن المرور عبر حواجز النظام والمعارضة والمتشددين او الذهاب الى تركيا حيث المقر والمستقر. باتت اجرة السيارة من حلب الى تركيا ارخص من حلب الى حلب. قطع مئات الكيومترات اقل كلفة من مئات الامتار. هذا قبل اغلاق معبري الحدود في باب الهوى وباب السلامة.
...عائد الى «دولة الخلافة»
الرحلة من حلب الى تركيا، ارخص واقل خطورة من الذهاب الى «دولة الخلافة» في شمال شرقي البلاد او الى الادارة الذاتية الكردية في ريف حلب الشمالي. بدءاً من عين العرب (كوباني) او عفرين وصولاً الى الحسكة والقامشلي شرقاً وما بينهما من «سد عربي».
في القامشلي، قيل ان الحكومة السورية باعت حوالي ٢٠٠ الف طن من القمح الى شركة اوروبية. صفقة البيع في مخزن الحبوب. كان على شحنات القمح ان تخرج من مناطق سيطرة النظام في القامشلي الى مناطق «وحدات حماية الشعب» الكردي. تخرج الشاحنات. تدخل الى مخزن تابع لتنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) في الرقة. تفرغ ربع حمولتها، حصة التنظيم من الصفقة. تستكمل طريقها بحماية «داعش» الى وسط البلاد، حيث يتسلمها عناصر قوات النظام ويكملون الطريق الى الميناء في الساحل غرباً. يحصل هذا ايضاً مع صفقات القطن التي تعبر ايضاً من «دولة الخلافة» الى مصانع النسيج التابعة للحكومة السورية. بل ان «سد الثورة» على «بحيرة الاسد» ونهر الفرات، خاضع لسيطرة «داعش» منذ فترة طويلة. لم يغير «التنظيم الارهابي» الموظفين او ادارته. يقال ان الحكومة تدفع الى «داعش» عشرات الملايين مبلغا شهرياً لابقاء عنفات السد تولد الكهرباء.
ماذا عن البشر؟ يأتي رجل «رقاوي» وزوجته الى مكتب الحسبة في عاصمة «الخلافة». يقدم طلباً للموافقة على سفره الى «عاصمة الكفر». السبب؟ يكتب انه لمراجعة طبية. يحصل على موافقة خطية. يأتي الى كراج الباصات. يظهران الموافقة مع بطاقات الهوية. رعايا «الخليفة» لهم طقوس. وللخروج من الرقة طقوس. يأخذ الرجل جرعات اضافية من الدخان. تضع الامرأة النقاب. تجلس النساء في كراسي مؤخرة الباص في قسم «الحرملك» ويجلس الرجال في القسم الامامي «السلملك». بينهما فاصل، حدود. مقاعد فارغة. لدى الخروج من الرقة، يتحقق عناصر «داعش» على الحواجز من الموافقات. يسير الباص بـ «رعاية الله». يعبر حقول المعارك ويستظل بالغارات.
«للحق يقال انهم (عناصر داعش) لا يأخذون رشى»، قال أحد الذين تنقلوا بين هذين العالمين. يضيف: «ليسوا فاسدين. تقطع يد من يمد يده». قبل الوصول الى «حاجز المليون»، تنزع النساء النقاب ويبدأ الرجال التدخين. تأتي المرأة الى قرب زوجها أو أخيها. مع «أبو حيدر» ليس هناك مزح. لا بد من دفع العمولة الى عناصر الحاجز كي يمر الباص. لا يعرف وساطة. بل قيل ان قرارات اتخذت في دمشق لازالة هذا الحاجز من ريف حماة وسط البلاد. لم يحصل تنفيذ الامر. وراء الحاجز ليس بكثير، حيث ارتكب «داعش» مجزرة بحق عشرة مدنيين في السلمية. التطرف لا يتعايش حتى مع الاسم.
ومع المرور عبر الحواجز، لكل منها سعره. ألف ليرة سورية على الراكب - الرأس. او ٥٠٠ ليرة. لكل سعره. لرأس الانسان. الماشية. السيارة. وما ان يصل الباص ومن عليه الى دمشق، حتى ينزل معاون السائق حاملاً بطاقات الهوية لاخضاع الاسماء للتحقق لدى الحاجز الامني. ساعات وساعات قبل الانفلاش في شوارع دمشق لبضعه
ايام… قبل العودة الى «عصر الخلافة». يسمع ان مدينة باتت تستضيف معسكراً يتدرب فيه ٤٠٠ طفل من «أشبال الخلافة». كان هؤلاء ممكن ان يكونوا «أشبال الثورة» التابعين لـ «البعث» السوري.
في العاصمة السورية، تعود القصص. البسطات تفترش الطريق. قصص عن فدية لإطلاق مخطوفين ومعتقلين. هناك من من دفع مئة الف دولار اميركي لاخراج معتقل. وهناك من يتحسب بعد اغتيالات في دمشق. كواتم صوت. في هذه المدينة «الهادئة». بين هدير الطائرات وصواريخ قاسيون، لا بأس من كواتم صوت.
وتستمر الطرقات في حمل المغامرين والبضائع. ويستمر دفع العمولات في «الدويلات» السورية. ويستمر أمراء الحرب وتجار الدم. بات في سورية كل شيء: ثورة ومؤامرة. نظام ومعارضة. سلمي وعسكري. وطني وانعزالي. هوية كبيرة وهويات صغيرة. صراع داخلي واقليمي. قاتل وضحية. صراع طائفي. ديني. عرقي. طبقي. لكن ما ينتظر كثيرون أجوبة ملحة لأسئلة تتعلق بالكيان والهوية. هل من صيغة تجمع هذه الشظايا و»الإمارات». توسع بقع الحبر هذه. تربطها في صفحة واحدة، خريطة واحدة. خياط يحيك القماشة ويرتق الثوب السوري. «بلادنا التي نعرف ذهبت. وسورية التي نريد لن تأتي»، هكذا لخصت شخصية سورية درب الآلام، بعد مغامرته وتسلله في عروق المتاح من جسد «الجمهورية العربية السورية».
عن الحياة