اطلس- ابو ظبي :انطلاق أعمال المؤتمر السنوي العشرين لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية
تحولات الأدوار والمصالح والتحالفات" بحضور فؤاد السنيورة، رئيس وزراء لبنان الأسبق، و الشيخ فاهم بن سلطان القاسمي، الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، والشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، نائب رئيس مجلس الأمناء، المدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي، بمملكة البحرين، و نبيل يعقوب الحمر، مستشار العاهل البحريني للشؤون الإعلامية، والسفير محمد العرابي، وزير خارجية جمهورية مصر العربية الأسبق، ونخبة من المفكرين والأكاديميين والباحثين وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي وإعلاميين، وسيستمر المؤتمر يومين.
وقد افتتح الدكتور جمال سند السويدي، مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أعمال المؤتمر السنوي العشرين للمركز بكلمة ترحيبية نقل من خلالها تحيات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، رئيس مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، إلى المشاركين في المؤتمر، وتمنياته لهم بالنجاح والسداد في الخروج بتوصيات ومشروعات قرارات تصبُّ في خدمة الأمن والسلام على الصعيدين الإقليمي والدولي،
وقال السويدي / ليس بخافٍ عليكم مدى تشابك الأحداث، وتطورات المشهد السياسي والأمني الراهن، ومتغيراته المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما حدث ويحدث فيها من تغييرات سياسية، وتبدلات في المصالح والتحالفات، ومن انقسامات حادَّة في الرأي العام لدى بعض شعوبها أحياناً، وبموازاة هذا الواقع تتفاقم ظاهرة الإرهاب بكل صنوفه وجرائمه التي فاقت حدود كل تصوُّر، ويكفي دولة الإمارات العربية المتحدة فخراً أنها كانت من أولى الدول التي شرعت في سنِّ قانون متكامل لمكافحة الإرهاب وجرائمه العابرة للحدود، أصدره الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة في أغسطس 2014؛ وذلك من أجل توصيف ظاهرة الإرهاب بشتى أنواعه، وتحديد هويات منظماته، وصنوفه، وردع مرتكبيه بأقسى العقوبات القانونية، وهي ظاهرة نتمنى من المشاركين في هذا المؤتمر إيلاءها أهمية خاصة من خلال البحث المعمَّق والمناقشات المستفيضة والتوصيات؛ بالنظر إلى كونها من أكثر الأخطار والتحديات الكبيرة التي تهدد الأمن والسلام والتنمية والاستقرار لشعوب المنطقة والإنسانية جمعاء. وقال انه بالرغم من تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب مؤخراً، فإننا في حقيقة الأمر لا نزال نبحث عن فرص حقيقية للانتصار على هذا التحدي، وتحجيمه، واستئصاله كلياً.
ولا يفوتني ، التذكير بالمخاطر الأمنية الأخرى التي تهدِّد المنطقة وشعوبها أيضاً، والتي لا تقل خطراً عن ظاهرة الإرهاب، فقد برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة التنظيمات والجماعات الفرعية التي تسعى إلى فرض نفسها بديلاً للدولة الوطنية، وباتت تستهدف الديموغرافيات السكانية لتغييرها على حساب المصالح الوطنية العليا للدولة والشعب، متزامنةً مع تنامي ظاهرة الاستقطاب الطائفي والديني في منطقة الشرق الأوسط.
وقال السويدي انه إزاء هذا الواقع، فإننا نرى علاقات وتحالفات إقليمية ودولية جديدة قد ظهرت، وألقت بظلالها وتأثيراتها وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على بلدان المنطقة، فضلاً عمَّا تفرضه قضايا الطاقة من تشكيل استراتيجيات وتوازنات جديدة للقوى الإقليمية والدولية نحو المنطقة في آن واحد معاً، فضلاً عن بحث الدور الصيني في توازنات القوى بمنطقة الشرق الأوسط.
ايران تعمل للسيطرة علي المنطقة !
وقال فؤاد السنيورة في كلمته الرئيسية امام المؤتمرإن عنوان مؤتمركم: «الشرق الأوسط: تحولات الأدوار والمصالح والتحالفات»، هو في الحقيقة عنوان مناسب وتعبير صادق عن واقع الحال الذي تعشيه منطقتنا في هذه المرحلة بالذات، حيث يسوق التراجع ويسيطر الغموض وتنقلب الأدوار وتتبدل التحالفات. وينكفئ أحياناً دور اللاعبين الدوليين عن المنطقة، فيما يتنامى بالمقابل دور الفاعلين الإقليميين. ويحتدم بالتالي الصراع على النفوذ والسيطرة، ويكون من نتيجة ذلك زيادة حدة اللااستقرار من خلال تفاعل العوامل المحركة للصراعات والنزاعات في النظام الدولي وكذلك في المنطقة، وهي النزاعات التي لم تعد جيوسياسية أو قومية أو اقتصادية فحسب وإنما أصبحت تأخذ أبعاداً حضارية ودينية وطائفية ومذهبية. ومما يزيد الأمور تعقيداً وتشابكاً تصاعد دور الفاعلين من غير الدول، كبعض التنظيمات والجماعات وتشابك دورها مع مصالح وأهداف قوى إقليمية ودولية.
وقال ان الحقيقة أن هناك غموضاً يلف مستقبل عددٍ من الأنظمة والبلدان العربية، في وقت انهارت فيه جدران الخوف والصمت مع انهيار حواجز الزمان والمكان بسبب ما حملته معها ثورة الاتصالات. كل ذلك وسط غموض يحيط بإمكانية نجاح ديمقراطيات موجودة أو ظهرت أو قد تظهر. وغموضٌ كذلك في استمرار بعض الحدود السياسية التي يعود تكوينها إلى مرحلتي نهاية الحرب العالمية الأولى أو الثانية. وغموضٌ في كيفية ظهور التنظيمات المتطرفة كتنظيم «داعش» وكيف تمكن من أن يطيح خلال أسابيع بالحدود السياسية التي تفصل بين بلدين. وغموضٌ حول مستقبل العلاقات الأمريكية-الإيرانية، وتأثيراتها على منطقتي المشرق العربي والخليج. وغموضٌ حول مستقبل احتمالات السلام الإسرائيلي-الفلسطيني، ولاسيما بعد الفوز الأخير لـ «الليكود» في الانتخابات النيابية الإسرائيلية من جهة، ونجاح القائمة العربية فيها ولأول مرة منذ النكبة من جهة ثانية. وغموضٌ في كيفية مواجهة العرب لهذا كله، وضرورة أن تكون لديهم استراتيجية واضحة لمواجهة الأخطار الناتجة عن الخلل أو الخواء الاستراتيجي في المنطقة، وقدرتهم على ترقب الفرص وحساب الإمكانيات لمواجهة هذا الكم الكبير من المتغيرات والتحولات.
واضاف السنيورة في كلمته / وسط هـذا الغمـوض والتحـولات مايـزال التعـامل في بلداننا العربيــة مع مفاهـيم أســاسية مثل الحفـاظ على الأمن الجماعي Collective Security وتعظـيـم المصـالح المشـتركة Common Interest قاصراً وضعيفاً، في الوقت الذي نحن بأمس الحاجة لذلك، وحيث نجحت التجربة الأوروبية في التعامل مع هذه المفاهيم وتطويرها وتعميقها.
وفوق كل هذا الغموض السياسي والأمني، يأتي الغموض الاقتصادي والاجتماعي مع انكشاف أكثر دولنا العربية على المخاطر الاجتماعية والأمنية والسياسية والثقافية المتزايدة التي تحملها هذه التحولات. غموض لا يسمح لنا بتقدير ما سيكون عليه مسار أسعار النفط وحصة السوق العربية مع تقدم تكنولوجيا النفط الصخري والاكتشافات الإفريقية، وآثار ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في كل من الدول العربية المنتجة للنفط والغاز وإيران وكذلك في الدول الأخرى المستوردة لهما.
ضرب النظام الاقليمي العربي
وقال السنيورة انه من المفيد في ضوء هذه الصورة المشوشة وقبل أن نستعرض القوى والعوامل الفاعلة في الشرق الأوسط اليوم، أن ننظر إلى كيفية تحوُّل الأدوار والمصالح والتحالفات، وهو الواقع الذي أوصل المنطقة العربية بأسرها إلى التراجع وبالتالي إلى المخاض الهائل الذي تشهده شعوبنا ودولنا العربية اليوم.
وعلى عكس البدء التقليدي بسقوط فلسطين في أيدي الصهاينة، وقيام دولة إسرائيل عام 1948 وما نتج عن ذلك من صدمات وإشكالات وحروب ومآسي، أريد البدء بالمحرِّك الأقرب وهو الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. فقد كانت هذه الفاجعة هي العامل الذي ضرب النظام الإقليمي في منطقة المشرق العربي بحيث تمت إزاحة الدور التاريخي للعراق كدولة عربية قوية حاجزة بين الداخل الآسيوي والبحر المتوسط، وقائمة على شط العرب، وبرِّ الخليج وبحره. ولقد كانت لذلك تداعيات حتى بشأن مصائر القضية الفلسطينية. وأنا لا أتحدث هنا عن العدوان على العراق واستعماره، بل أتحدث عما ادعاه الأمريكيون أنهم إنما يقومون بعملية بناء الدولة هناك State Building . والذي حصل أنهم ما غيّروا نظام الحكم الذي كان قائماً، كما فعلوا في اليابان وألمانيا مثلاً، بل هدَّموا الدولة العراقية القائمة منذ العام 1920. وعندما خرجوا من البلاد (2010 - 2011) كانت في العراق حرب أهلية غير معلنة ساهموا في إيقادها وتأجيجها. وكانت القوات العسكرية والأمنية الجديدة مكوَّنة من طرف واحد. وكان إقليم كردستان شبه مستقل لولا المناطق المتنازع عليها. وكان الإيرانيون يُحكمون سيطرتهم على مفاصل الكيان الجديد بواسطة أنصارهم من السياسيين والميليشيات. والحاضر البارز أن قوى التطرف التي قاتلت الأمريكيين، كان قد صار لها موطئ قدم من الطبعتين الثانية والثالثة لـ «القاعدة». والخطير أخيراً أنه صارت للميليشيات المتطرفة وظيفة داخلية مُدعاة تتعدى مقاومة الأمريكيين الغزاة، وهي حماية أهل السنة وحقوقهم من التغول المذهبي الإيراني، بإقامة الدولة القاتلة باسم الإسلام كما صار معروفاً عن «داعش» اليوم، بل من أيام الزرقاوي عام 2005 و2006.
وقال انه لا يمكن تجاهل تداعيات السطوة الإيرانية في العراق على سوريا ولبنان وتفاقم التدخل الإيراني في المنطقة العربية من خلال محاولة اختطاف القضية الفلسطينية، وكذلك خطف قضية الدفاع عن الإسلام وفرض الغَلَبة في العراق ومحاولات الغَلَبة في كل من سوريا ولبنان واليمن. ولقد تجلَّى ذلك من خلال ما اعتمدته إيران من سياسات وأدوات لتصدير الثورة وابتداع مفهوم ديني وطائفي ومذهبي جديد، أو توسيع نطاقه من خلال ولاية الفقيه العابرة للحدود الوطنية، وتداعيات ذلك كله على النسيج الوطني في بلدان عربية وإسلامية عدة. وأيضاً تداعيات كل ذلك على فلسطين قضيةً ونضالاً وأرضاً.
ففي العام 2007 وبمساعدة إيران والنظام السوري استولت «حماس» على غزة، وأحدثت شرخاً وانقساماً عميقاً في العمل الوطني والنضالي الفلسطيني بما صبّ في صالح العدو الإسرائيلي الذي كان يسعى إلى فصل الضفة عن القطاع. وفي العام 2007 حاول النظام السوري إقامة إمارة إسلامية بطرابلس بشمال لبنان عبر استطلاء المنظمة المسمّاة «فتح الإسلام» على مخيم نهر البارد، وهي المنظمة التي كان النظام السوري وراء إنشائها وتسهيل قدومها إلى لبنان وسيطرتها على المخيم المذكور. وفي العام 2008 استولى «حزب الله» على مدينة بيروت مما أحدث شرخاً وانقساماً إضافياً وتشنجاً عميقاً في لبنان وزاد من حدة الانقسام السني-الشيعي الخطير.
وعندما قامت الثورة بسوريا على نظام الأسد عام 2011 تداعى «حزب الله» بلبنان، وميليشيات نظام نوري المالكي لمساعدة الأسد على إخماد ثورة الشعب السوري بأمر إيراني. وما يزال الأمر على هذا النحو منذ أربع سنوات. وفي العام 2014، كما نعلم، استولى متطرفو «داعش» على محافظتين سوريتين، ثم اجتاحوا الأنبار وديالى وصولاً إلى صلاح الدين والموصل بالعراق في سرعة مستغربة ومشبوهة المقاصد والأهداف.
وفي العام 2014 ذاته، وفي الوقت نفسه تقريباً اجتاح «الحوثيون» بعد صعدة وصنعاء ومأرب والحديدة، وهم كانوا مايزالون يحاولون الاستيلاء على تعز ومحافظات وسط اليمن وشرقه وجنوبه وعدن.
ماذا لدينا الآن فيما يمكن الحديث عنه وتقدير عوامله وآثاره في تحولات الأدوار والمصالح والتحالفات؟
وهناك ثالثاً تركيا التي تملك شبكة تحالفات هامة على صعيد المنطقة ولها مصالح عديدة وهي تسعى دائما لأن تلعب دوراً هاماً في النطاق الاستراتيجي، وذلك منذ أن قررت الالتفات جنوباً بعد أن تعذر انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
وهناك رابعاً الولايات المتحدة التي يتبين يوماً بعد يوم أن ارتباك سياساتها وانسحابها من المنطقة وقولها بأنها تريد أن تتفرغ إلى اهتماماتها في منطقة الشرق الأقصى ومن ثم عودتها الملتبسة الآن أدت عن قصد وعن غير قصد إلى زيادة حدة التوترات الطائفية والمذهبية وأسهمت في ظهور وتشدد قوى التطرف وفي المحصلة في تقوية الحلف الذي تقوده إيران في المنطقة.
وهناك خامساً روسيا ذات الموقف الملتبس. فمن جهة كان إصرارها على موقفها من الأزمة السورية أحد أسباب استمرار القتل والدمار الذي يُنزله النظام السوري بسوريا واستمرار هول المأساة التي يعاني منها الشعب السوري حتى يومنا هذا. وكل ذلك بدعوى الحفاظ على الاستقرار في المنطقة. ولكن ما تقوله روسيا لجهة رغبتها بدعم الاعتدال في مواجهة التطرف لا يتفق مع ما تتخذه من سياسات ومواقف تصب في تعميق الانقسامات في المنطقة، وإن كان يسجل لها انفتاحها اللافت مؤخراً على مصر وسعيها لتعزيز الروابط معها. وذلك فإن التواصل معها مفيد لأنه يمكن ربما أن يسهم في تحسين فرص استعادة الاستقرار للمنطقة.
وهناك سادساً الحركات الأصولية الإسلامية المتشددة واستشراء الجهاديات باسم الإسلام، تارة بحجة مقاومة الاستيلاء الإيراني والميليشيات الشيعية المرتبطة به، وطوراً لإقامة الدولة الإسلامية الشرعية، وهي الحركات المشبوهة والمدمرة والتي يلتبس علينا فهم طبيعة نشوئها ومَنْ يحركها، وما هو الدور الذي لعبه الفاعلون المحليون والإقليميون والدوليون في تعبئة بعض من تلك الجماعات المتمحورة حول «القاعدة» أو المتفرعة عنها في إنشاء «داعش» وغضّ النظر عنها، كما فعل النظام السوري قبلاً في حالة منظمة «فتح الإسلام» في لبنان. ثم إنها المنظمات التي أفضت في محصلة الأمر إلى تشويه الانتفاضة السورية وشرذمتها وكذلك تشويه صورة الإسلام.
وهناك سابعاً قوى الاعتدال العربي والتي يشكل التحالف بين دول مجلس التعاون الخليجي من جهة، ومصر من جهة أخرى عمودها، وهي تضم أيضاً الأردن والمغرب ومرشحة لأن تستقطب آخرين. لقد كان هناك تنسيق مفيد بين هذه الدول العربية المستقرة في السنوات الأخيرة. وقد تجلى ذلك أخيراً بوضوح في مبادرة «عاصفة الحزم» التي تقودها المملكة العربية السعودية من أجل سلامة اليمن واستقراره وصوَن هويته ودولته والتي يمكن أن تشكل منعطفاً نحو إنهاء حال الاستضعاف والتراجع العربي.
ومضي السنيورة في كلمته قائلا : في ضوء هذا الاستعراض للقوى المتحالفة والمتصارعة على الساحات الساخنة في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا وإلى حدٍّ مصر والبحرين، وحيث تختلف في كل ساحة طبيعة التحالفات والهواجس، قد يختلط الأمر على الكثيرين مما يدفعهم إلى الظن أن جوهر المشكلة في المنطقة أصبح الصراع بين السنـة والشـيعة، وهو الأمـر الذي يجب أن نحرص على أن لا ننساق إليه، والذي يجـري استغلالـه وتأجيجه لمآرب سياسية أو قومية. أو أنه صراعٌ بين الفرس والعرب الذي من الممكن تحويله إلى تعاون وتكامل على قواعد الأمن الجماعي Collective Security والمصالح المشتركة Common Interest والاحترام الكامل لسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. أو هو صراع بين العرب والإسرائيليين الذي يمكن التصدي له من طريق التقدم نحو حلّ الدولتين المتجاورتين على قواعد المبادرة العربية للسلام.
واكد ان هذه المسائل والقضايا الشائكة تظل في حقيقة الأمر في صلب القضايا الواجب إيجاد الحلول لها، والتي ينبغي التأكيد عليها وتوفير الإرادة الحاسمة والمصممة لذلك. هذا في الوقت الذي يجب أيضاً العمل على إبراز الصراع الآخر وهو الصراع بين قوى الاعتدال التي تؤمن بفكرة الدولة المدنية التي تحترم التنوع والعيش المشترك وحقوق الإنسان وحيث يتساوى جميع أبنائها في الحقوق والواجبات وتعمل من أجلها من جهة، وبين قوى التطرف بجميع أشكالها والتي تؤمن بنوعٍ آخر من الدولة يكون أساسها إقحام الدين أو المذهب، وعلى غير حقيقتهما، في الدولة سواءٌ أكانت يهودية أم دولة الخلافة أم دولة الولي الفقيه والتي كون بنتيجتها إفساد الدين وإفساد الدولة.
وقال انه إذا أدركنا هذا الواقع ووافقنا على هذا التشخيص للمشكلات التي نواجهها ندرك أن قوى الاعتدال في المنطقة تواجه حقيقة قوى التطرف والإرهاب، التي وإن كان يبدو أن هذه الأخيرة تتصارع مع بعضها بعضاً في بعض الساحات إنما هي في الواقع ومن خلال تصارعها تغذي وتؤبد بعضها بعضاً. في ضوء ذلك ولتحقيق الفوز في هذا الصراع يجب أن يتركز العمل على تعزيز قوى الاعتدال من جهة أولى والعمل على إعادة بناء التوازن الاستراتيجي الذي اختل في المنطقة من جهة ثانية.
وهنا اسمحوا لي أن أقول بوضوح إن العرب والمسلمين المعتدلين هم وحدهم القادرون على هزم قوى التطرف في المنطقة وأنه يقع على عاتقهم تحقيق ذلك. كما أن الدولة المدنية وحدها هي التي يمكنها أن تكون الضامن الحقيقي لاحترام حقوق جميع المواطنين أفراداً وجماعات، أكثريات وأقليات، وليس باختراع ضمانات إقليمية من هنا ودولية من هناك التي هي أشبه بالسراب.
على هذا يصبح من الضرورة على قوى الاعتدال العربي أن ترفع من مستوى تصديها في هذا الصراع، وذلك من خلال التركيز على ثلاثة محاور:
المحور الأول: العودة إلى القضية الأساس، وهي القضية الفلسطينية التي تبقى مصدر معظم المشكلات في منطقتنا. وبالتالي فإن مع فتح باب السلام الحقيقي والشامل سوف ينبلج فجر الإمكانات الإيجابية الحقيقية لهذه المنطقة، ومنها أيضاً ما يمتد إلى مناطق عديدة في العالم من حولنا بما يسهم في تفادي العديد من المخاطر الجاثمة على صدر المنطقة. ومن ضمنها ما يسهم به استمرار الاحتلال الإسرائيلي وإبقاء القضية الفلسطينية دون حل عادل، لتداعيات ذلك كله على استمرار وتصاعد العنف في المنطقة وما وراءها.
إن التقدم على مسار إيجاد حل عادل وشامل للصراع العربي-الإسرائيلي من خلال العمل على إنشاء دولة فلسطينية موحدة وسيدة قابلة للحياة أمر في منتهى الأهمية ولا يكون ذلك إلا من خلال إعادة تفعيل المبادرة العربية للسلام.
إن مداواة هذا الجرح الفلسطيني المفتوح والنازف ضروري من أجل تحسين العلاقات المستقبلية بين العرب والمسلمين من جهة والعالم من جهة أخرى. إن تخفيف الاحتقان لا يكون بين الدول فحسب، بل أيضاً بين الثقافات، حيث إن استمرار هذه القضية دون حل دائم يمثل تهديداً للجميع، سواء للشرق أو الغرب، وللعرب وغير العرب. وإذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع بقية العالم، علينا أن نعترف أن جزءاً لا بأس به من سوء الفهم التاريخي بين العالم الإسلامي والغرب في العصر الحديث يعود إلى عدم حل مسألة فلسطين ومن ضمنها قضية القدس.
المحور الثاني: وهو تفعيل العمل العربي المشترك بشقّيه السياسي/الأمني والاقتصادي.
في الشق السياسي/الأمني، كان الأمير سعود الفيصل قد تحدث في مؤتمر القمة العربية بسِرت عام 2010 عن الخواء الاستراتيجي العربي، وقد اعتبره مانعاً أو حائلاً دون حوار استراتيجي مع الجوار. وتحدث الأمير سعود الفيصل أخيراً في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، يوم 6/ 3/ 2015 عن التدخل الإيراني المباشرة وبواسطة الميليشيات، حيث إن إيران تتدخل في بلدان عربية عدة، وأحياناً بالميليشيات المذهبية، وأحياناً أخرى بـ «الحرس الثوري»، أو بالتحريض السياسي والطائفي. إزاء ذلك، فإنه لابد من تطوير موقف عربي جماعي واضح وحازم يستعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة ويتصدى للاجتياح الإيراني للدول والمجتمعات العربية.
وقال إن هذا الأمر يكون من خلال استعادة عودة مصر للعالم العربي لتلعب الدور المنوط بها، والذي لا يستطيع أحد غيرها القيام به، وعلى أن يكون ذلك مع تخففها مما تعانيه من صدمات داخلية سياسية وأمنية. ويكون بنتيجة تحقيق المصالحة الداخلية على قواعد احترام الدولة ومرجعيتها الكاملة واحتضانها واستيعابها وإشراكها لكل المكونات فيها، وكذلك متخففة من أحمالها الاقتصادية. ولا شك أن في ما حصل مؤخراً في المؤتمر الاقتصادي الذي عُقد في شرم الشيخ من دعم لمصر أمر يدعو إلى الارتياح والأمل. إن هذا الاحتضان الاقتصادي والتنموي هو الذي ركّز عليه كلٌ من الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس عبدالفتاح السيسي في مؤتمر القمة العربية بشرم الشيخ أيضاً قبل أيام. وهذا يعني وعياً رفيعاً بالمسؤوليات والتطلعات.
وفي الشأن الاستراتيجي أيضاً، فإنه لا بد من تفعيل التواصل مع تركيا لما لها من تأثير في أزمات المنطقة، ولاسيما في سوريا والعراق، حيث يمكن أن يصبح دورها إيجابياً في هذين البلدين وبما يسهم في تعزيز التوازن الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما أن لتركياً أيضاً علاقات بتيارات الإسلام السياسي في العالم العربي المؤثرة على الاستقرار مما يشجع على التفكير في محاورة استراتيجية معها، وبخاصة بعد زيارة الرئيس أردوجان للمملكة العربية السعودية فلي بادرة تقارب وموقف تركيا الداعم لمبادرة «عاصفة الحزم».
وقال السنيورة : يتطلب هذا كله إعادة هيكلة الجامعة العربية من أجل الإقدار على أدوار متحركة وفاعلة. وهذه الجوانب جميعاً إذا تكاملت فإنها تشكّل منعطفاً أساسياً نحو استعادة للملاءة الاستراتيجية والتوازن الاستراتيجي في المنطقة.
واضاف قائلا : كنتُ بعد الانقلاب الحوثي باليمن وقبل خمسة أشهر قد نشرت مقالة بالاشتراك مع الأستاذ عمرو موسى، طالبت فيها بقوة عربية مشتركة لصوَن الأمن الاستراتيجي العربي، وكنا نعني بذلك قضايا وحدة الدول العربية ووحدة أراضيها، وصون ممراتها البحرية والجوية ومجالها الحيوي، وبنيتها الدولتية والتنظيمية، وقبل ذلك وبعده هويتها وانتماءها. وقد سمعتُ الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، يطالب بذلك. ثم اقترن مؤتمر قمة شرم الشيخ بمبادرة «عاصفة الحزم» لاستعادة اليمن بقيادة المملكة العربية السعودية، وبقوات من دول شقيقة عدة. وهو تطبيقٌ عمليٌ يأتي تعبيراً صادقاً عما يجول في وجدان العرب -كما قال الرئيس السيسي- للقوة العربية الواحدة، وهو الأمر الذي ينبغي المضي به قُدماً لصون الأمن والهوية والانتماء والاستقرار. بما يعني ذلك الحرص على احترام واحتضان واستيعاب وإشراك كل المكونات في اليمن وهو الأمر الذي يجب احترامه واعتماده في كل مجتمعاتنا العربية، حيث يحترم خصوصياتها ويشركها ولا يقصيها. كما ويعمل في آن معاً على المساعدة في تحقيق التنمية والازدهار الذي تحلم به جميع أجيالنا العربية وبما يطمئنها إلى حاضرها وغدها.
يجب أن تُعطى الأولوية اليوم لتثقيل الوزن العربي وإيجاد التوازن الاستراتيجي الذي يؤدي في المحصلة إلى عدم السماح للدول الكبرى والدول الإقليمية الأخرى استخدام منطقتنا العربية لتحقيق مآربها ولإيصال الرسائل عبرها أو لابتزاز بعضها بعضاً.
أما في الشق الاقتصادي، فلا ينبغي أن تحب التحديات السياسية التي نتصدى لها كعرب العديد من التحديات الاقتصادية التي نحن في خضمها ومنها التزايد السكاني وتراجع جهود التنمية ومعدلات النمو، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتراجع الثقة بالمستقبل. والخطر الأكبر هو ارتفاع معدلات البطالة وخاصة بين الشباب. ذلك مما يشكل مصدر قلق في معظم البلدان العربية. وإن التحدي الكبير الذي يواجهنا الآن وأكثر في السنوات العشر القادمة يكمن في كيفية إيجاد 50 مليون فرصة عمل جديدة لاستيعاب المنضمين الجدد إلى سوق العمل العربية. وكيف يمكن تأهيل جزء وافر منهم من أجل التلاؤم بمعارفهم ومهاراتهم مع طبيعة الحاجات القادمة لاقتصاداتنا العربية.
كذلك فإن التحدي الحاضر يظهر في انخفاض أسعار النفط الذي يشكل خطراً على اقتصادات الدول العربية المنتجة والمصدرة. هذا علماً أن ذلك يمكن أن يشكل فرصة للدول العربية المنتجة للنفط والمستوردة له على حد سواء للسير في برامج إصلاحية لاقتصاداتها ولمالياتها العامة لتنويع الاقتصادات الوطنية ولتعزيز معدلات النمو وجهود التنمية البشرية والاقتصادية وترشيق القطاع العام ولتمكين القطاع الخاص العربي من جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
دعونا نكُنْ صادقين مع أنفسنا: لا يمكن لأي اقتصاد عربي بمفرده أن يحلّ وحده هذا الكم الكبير من التحديات التي يواجهها، وبالتالي فقد حان الوقت للتحرك وفق رؤية واضحة لتحقيق تكامل اقتصادي عربي يعود بالنفع على جميع الاقتصادات العربية، وكذلك على دول الجوار، ويسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمني والسياسي في دولنا العربية.
أما المحور الثالث: فهو في التصدي للحركات المتطرفة وضرورة الإصلاح الديني، وذلك بهدف إنقاذ الإسلام من هذه الآفات والجرائم التي ترتكب باسمه.
وقال السنيورة مخاطبا الحضور : إن دعوتي هي أن نقف ونبادر في مواجهة قوى التطرف وأول المبادرات الضرورية هي القيام بالأصلاحات في المؤسسات الدينية في عالمنا العربي والإسلامي للتكيف مع عالم متغير، ولحماية الدين الإسلامي المستنير. نحن علينا أن نكافح ونتصدى للتنظيمات المتطرفة لأن في ذلك مصلحة أكيدة لشعوبنا ولديننا الإسلامي. وإلى جانب ذلك وفي أهميته، فإنه ينبغي على رجال الدين المسلمين أن يبادروا ليكونوا منفتحين ومستنيرين بقدر الإسلام ذاته، ويغيروا من خطابهم الديني لكي يكون أكثر تسامحاً. كذلك فإن المسلمين من مفكرين وقياديين وقادة روحيين ومؤسسات دينية، لديهم عمل كثير لإصلاح التعليم الديني، وتشجيع التفكير النقدي، وتغيير الرؤية للعالم، خاصة بعد عقود من استتباع الأنظمة العسكرية والأمنية للمؤسسات الدينية. لقد آن الأوان ليسهم المسلمون من كل الجنسيات في مهمة الإصلاح الديني الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم والمعرفة وتأكيد المطالبة بتوفير حقوق الإنسان والانفتاح على العالم على قاعدة أخوة البشر وتعارفهم.
واكد إن عمل قوى الاعتدال العربي على المحاور الثلاثة يجب أن يترافق مع عمل حقيقي من قِبَل أصدقائنا في العالم لمساعدة هذا الاعتدال وعدم الاكتفاء بادعاء حب الحرية والعدالة والتسامح واحترام حقوق الإنسان، بينما بالكاد يدينون أعمال أنظمة الطغيان، والتدخلات الشعوبية والطائفية المثيرة للحساسيات الدينية والعرقية.
إن المجتمع الدولي لديه مصلحة وعليه مسؤولية في مساعدة شعوب المنطقة على التخلص من مشاعر اليأس والإحباط والمساهمة في الجهود التي تبذلهاغ لبناء مجتمعات أكثر ديمقراطية وازدهاراً.
وقال إن تصوير العرب والمسلمين على أنهم عنيفون أو أنهم بطبيعتهم معادون للغرب لا يؤدي إلا إلى ازدياد شعورهم بالاحتقار وبالتهميش وبالذل والغضب.
فإضافة إلى فلسطين، فإن المكان الآخر للمساعدة هو سوريا. ولا يكون ذلك بالعودة إلى التقرب من النظام الجائر الظالم، بل بتقديم الدعم الحقيقي للقوى المدنية المعتدلة للمعارضة. ولو تم القيام بهذا الأمر باكراً، لربما ما استطاع تنظيم الدولة الإسلامية أن يظهر ويستمر. وما كان له أن يقوم بتهجير مسيحي الموصل من الأشوريين وتهجير الإيزيديين وتدمير الآثار القديمة في العراق وسوريا، والتي هي ملك الإنسانية جمعاء. والأمر نفسه ينطبق على سياسات الغرب في العراق. إن من مصلحة الغرب أن يربح الاعتدال العربي المعركة.
وخلص الي القول انه في ضوء هذا الواقع الصعب يتبين بما لا يقبل الشك أنه لا يمكن لدولنا ولمجتمعاتنا العربية أن تلقى الاهتمام والاحترام في محيطها وفي العالم في ظل غياب موقف عربي حازم وفكر عربي مبادر. على العكس من ذلك، فإن حال التشرذم والانقسام والتشاطر على بعضنا بعضاً يدفع بالدول الإقليمية والمجتمع الدولي إلى التجاهل.
وقال ان هناك حاجةٌ ماسةٌ لتكوين موقف عربي بما يعيد للعرب احترامهم بدايةً لأنفسهم ولدى غيرهم ويستعيد بموجبه المواطنون العرب بعض الأمل في المستقبل، ويعيد إليهم احترام العالم لهم ولقضاياهم. إن ما نأمله من هذا الموقف العربي المستجد والمتمثل بـ «عاصفة الحزم» في اليمن أن يشكل الخطوة العملية الأولى في موقف عربي يُخرج الأمة من حال التقاعس والتواكل ويوقف حالة الانحدار العربية.
واكد إن العمل من أجل تحقيق الأمن العربي ليس موجهاً ضد أي جهة في المنطقة أو في العالم، بل هو بالفعل العمل من أجل إيجاد مجال حيوي للتعاون المشترك بين الدول العربية لتحسين آفاق تعزيز الاعتدال والاستقرار من جهة، وتعزيز التنمية والازدهار في العالم العربي من جهة أخرى. ويكون أيضاً وسيلة للعرب للتوصل لعلاقات متساوية ومتعاونة مع الدول المجاورة ومع بقية دول العالم، مبنية على الاحترام المتبادل ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وقال إن المصالح المشتركة للشرق والغرب هي في استقرار الشرق وفي إقداره على معالجة مشكلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية وليس في توسيع نطاق الحروب والصدامات. وتساءل السنيورة قائلا /
أوَليس مؤذياً ومُذِلاً هذا التسارع القاتل بحراً وجواً وبراً إلى أوروبا من جانب أفواج المهجَّرين البائسين في مواجهة الموت، حتى إذا وصلوا للضفاف، واجههم واقعُ تطرف بعض أبناء الجاليات العربية من الجيلين الثاني والثالث، بداعي كراهية الغرب، كما واجههم ويواجههم واقعُ تظاهرات الإسلاموفوبيا وكراهية العرب والمسلمين من أهل البلاد التي يلجأون إليها طلباً للأمن والعيش؟!
وقال في ختام هذه الكلمة لا بدّ لنا أن نعترف بأخطاء جسيمة ارتكبناها في سنوات المراهقة، حيث كان علينا أن نحجز أماكننا في مسيرة التقدم منذ وقت طويل لكي نكون في الموقع الصحيح الذي كان يجب أن نكون فيه اليوم ويؤهلنا لكي نحجز موقعنا في المستقبل. لكننا لم نفعل. إن تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في الوحدة وفي التنمية نموذجٌ يستحق منا التدبُّر وإمكان التحول إلى تجربة جماعية عربية تعبر عن استيعابنا لتجارب الماضي وتساعدنا في التعامل مع قضايا المستقبل باقتدار. قطار المستقبل يطلق صفارته الأخيرة لكي نستطيع المواكبة. هل سنقوم بذلك؟ نعم يجب أن نلبي النداء وإلا لن يكون لنا مكانٌ في ذلك القطار ولا في ذلك المستقبل.
بعدها ألقى محمد العرابي، وزير خارجية مصر الأسبق، كلمة جمهورية مصر العربية إلى المؤتمر، وأشاد فيها بالنموذج الحضاري الذي تجسِّده دولة الإمارات العربية المتحدة في المجالات كافة، وعلى الصعد الإقليمية والعالمية والإنسانية، وبالدور البحثي والاستشرافي الذي يضطلع به مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية كمركز مرموق يُعَدُّ اليوم من أفضل مراكز البحوث في العالم لموضوعيته وبحوثه وإصداراته والمؤتمرات العلمية والفكرية التي ينظمها.
إقامة نظام عربي جديد
وقال : يتزامن وجودي بينكم اليوم، مع أحداث جسام باتت تهدد دولنا العربية، من المحيط إلى الخليج، وهو ما فتئ يفرض على حكوماتنا وشعوبنا العربية أن تمد يد العون إلى بعضها، كي نتجاوز تلك المرحلة المفصلية من تاريخ الدولة القومية العربية الحديثة، التي تتضافر قوى عدة لتقويضها، والنيل من مقدراتها، وقد كانت القمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ خير نموذج على استشراف عمل عربي مشترك وإقامة نظام عربي جديد.
إن ما أفرزته السنوات القليلة الماضية، من سيولة سياسية شملت جميع أرجاء المنطقة، قد فتحت الباب أمام قوى إقليمية لممارسة سياسات تسعى إلى التمدد وإنقاذ الهيمنة والسيطرة داخل النظام الإقليمي العربي، وجاء ذلك بالخصم من نفوذ القوى العربية التقليدية التي أنهكتها تطورات الفترة الماضية، وهو ما حملها على الانكفاء على ذاتها في محاولة لترميم جبهاتها الداخلية وتحصينها أمام أي اختراقات خارجية. وفي ظل تلك الأوضاع، باتت الحاجة ملحة إلى تحقيق قدر معتبر من التنسيق العربي المشترك لمجابهة تلك الأخطار، تلك الرغبة انتقلت من مصافي الأماني إلى مصاف الفعل، ولعل اجتماع الإرادة العربية على إنشاء قوة عربية مشتركة إنما يعد تجسيداً فعلياً لتفاعل تلك الإرادة العربية مع ضرورات المرحلة، خاصة مع تعدد مكامن الخطر الاتي لم تعد قاصرة فقط على التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول العربية، وإنما تعدى ذلك ليشمل بروز تحديات من كيانات إرهابية خارجية عن الشرعية، وعن صحيح الدين، ترمي إلى تحقيق مخططاتها الرجعية وإنقاذها في دولنا العربية، ما يجعل من حديث التضامن العربي في الفترة الحالية أكثر إلحاحاً في ظل ما نواجهه جميعاً من ظروف استثنائية.
واضاف : تتعدد التحديات التي تواجه دولنا العربية، كما تتنوع طبيعتها ما بين سياسي واقتصادي واجتماعي، تلك التحديات المستجدة قد صرفت الانتباه مؤقتاً عن التحديات «التقليدية» التي تواجه المنطقة ومنها عدم التوصل إلى حل عادل وشامل للصراع العربي الإسرائيلي وفي القلب منه القضية الفلسطينية، وتنامي القدرات النووية لبعض دول المنطقة مثل إسرائيل وإيران مما يفتح المجال أمام سباق تسلح نووي سيكون له تداعيات خطيرة على أمن واستقرار العالم، وعدم تحقيق تنمية مستدامة وشاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مما وفر بيئة خصبة ومواتية لانتشار الفكر المتطرف استغلالاً لأوضاع اقتصادية واجتماعية بالأساس، وهكذا، واسمحوا لي في عجالة أن أذكر ببعض هذه التحديات التي تكتنف مسارنا، أوجزها فيما يلي:
أولاً: انخفاض معدلات التنمية في غالبية دول العالم العربي عن غيرها من المناطق، ومع ارتفاع نسب نمو سكانها الذين يتكون غالبيتهم من الشباب الذي لا يحصل على ما يرضيه من التعليم والخدمات الصحية والوظائف، مما يخلق لديه شعوراً متزايداً برفض الوضع القائم ومحاولة تغييره، فإذا ما انتفت الوسائل السلمية لذلك التغيير احتاج للجوء العنف والتطرف.
ثانياً: بالاستفادة من تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية شهدنا انتشار الجماعات والمنظمات التي تدعو إلى الفكر المتطرف والتكفيري في أرجاء العالم العربي، وزادت الشعبية التي يحظى بها هذا الفكر لدى بعض الشرائح بالمجتمعات العربية، وارتبط ذلك بانتشار ملحوظ على الأرض لتنظيمات إرهابية وراديكالية في المنطقة من المشرق للمغرب، وصولاً إلى إعلان ما يسمى بتنظيم «داعش» في ظل حالة السيولة التي عصفت بالمنطقة إثر ثورات الربيع العربي والتي مثلت الفرصة التاريخية السانحة لسيادة التيارات الإسلامية المتنوعة وعلى اختلاف مرجعياتها، خاصة مع ازدياد النعرات الطائفية والعرقية.
ثالثاً: الصراعات المذهبية والإثنية التي امتدت وباتت تهدد الاستقرار الداخلي لعدد من دول المنطقة، والتي أسهم في إذكائها تدخلات بعض القوى الدولية والإقليمية لتصل إلى حالة الفراغ والسيولة الاستراتيجية.
رابعاً: ارتباط ما تقدم بصعود واضح لدور الفاعلين غير الحكوميين في المنطقة والذين يسعون إلى إضعاف - بل وتفتيت- روابط الدولة العربية القومية الحديثة لصالح روابط تستند إلى الدين أو المذهب أو العرق عابرة للحدود.
خامساً: ظاهرة تدويل النظام العربي والوجود الأجنبي المباشر على أراضيه، بمعنى زيادة اختراقه من خارجه بما جعل ملفات القضايا العربية الكبرى في أيد غير عربية مثالها الأوضاع في كل من سوريا وليبيا واليمن والعراق، مما أدى إلى تحول الصورة بشكل أو بآخر إلى تدخل مباشر في المنطقة، وهو وضع ليس بالجديد، بل حالة متواصلة ترجع أسبابها إلى أهمية الوطن العربي الاستراتيجية.
سادساً: الدور الذي يقوم به بعض الفاعلين الإقليميين من غير العرب في عدد من الملفات الإقليمية، ومن ناحية أخرى التدخل في شؤون دول المنطقة العربية، استغلالاً لانشغال بعض القوى الإقليمية العربية في شؤونها الداخلية نتيجة لتطورات الأوضاع بها، في محاولة منها لملء الفراغ الاستراتيجي الناتج عن حالة الفراغ والسيولة التي تعيشها المنطقة من خلال الانخراط في عدد من الملفات الإقليمية التي تؤثر على أمن ومصالح دول المنطقة بحكم ترابط مصالحها بعدد من أطراف المشهد السياسي في هذه الدول مذهبياً أو سياسياً، أو نتيجة لجوارها الجغرافي المباشر وفقاً لرؤيتها وأجندتها الخاصة.
إن تلك التحديات الجسام، وإنما تنبؤنا بأنه ما من سبيل إلى تخطيها سوى بالعمل المشترك، وتجاوز الخلافات الهامشية ضماناً للوصول إلى إجماع بات ملحاً، عل ذلك يقيناً أن تحملنا الأجيال القادمة وزر مآسيها، التي ستتفاقم حتماً إن لم نقف لها بالمرصاد، اليوم وليس غداً، وعليه، فإن ما تضطلع مصر به اليوم من جهد رئيسي مع أشقائها العرب، إنما يهدف إلى رص الصف العربي، ابتداءً وصولاً إلى بلورة سياسات مشتركة تكفل تحقيق الحد الأدنى من تطلعات شعوبنا، بما يحميها من الأخطار التي تتهدد حاضرها، ومن ثم تجاوز تلك الفترة العصيبة والمفصلية، حتى يتسنى لنا التركيز على الارتقاء بنوعية ومستوى الحياة في بلداننا العربية، إيماناً منا بأن الشعوب العربية قد آن لها أن تنعم بالسلام والاستقرار والتنمية بعد عقود طويلة من الحرب والدمار.
ظاهرة الإرهاب
لعله لا يخفى عليكم خلفيات ظاهرة الإرهاب التي شرع المجتمع الدولي في التعامل مع تداعياتها إثر أحداث سبتمبر الأليمة، ثم ما فتأت القوى الكبرى أن تنبهت مجدداً لمخاطر المهادنة مع مثل هذا الفكر المتطرف بفعل انخراط أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب ضمن صفوف تنظيم «داعش» الإرهابي الذي يسيطر على مساحات ليست بالقليلة من الأراضي السورية والعراقية، بل وامتد خطره الآثم نحو أقطار عربية أخرى في شبه الجزيرة والمغرب العربيين.
واسمحوا لي في هذا المقام أن أعيد على مسامعكم فحوى الموقف المصري الذي لطالما ناشدنا المجتمع الدولي من خلاله بضرورة الاستناد إلى مفهوم شامل لدى التعامل مع التنظيمات الإرهابية، والتي إن تباينت ظاهرياً في حد تطرفها وأهدافها من بلد لآخر، إلا أنها تمثل في نهاية المطاف منظومة واحدة من الفكر التكفيري القائم على شبكة ممتدة من المصالح المشتركة التي لا يقتصر تهديدها على دولة أو منطقة بعينها، وإنما تطال العالم بأسره، وذلك على نحو ما تبين عبر الارتباط التنظيمي أو على الأقل الدعم المعنوي الذي يلقاه تنظيم داعش الإرهابي من مجموعات تخريبية مشابهة سواء داخل أو خارج العالم العربي.
وبما أن تنظيم داعش يحاول النيل أيضاً من سلامة قُطر عربي آخر، ألا وهو العراق الشقيق، فدعوني أنوه بأهمية تشجيع الحكومة العراقية الجديدة على الالتزام بمقتضيات التوافق الداخلي على نحو يتطلب تضافر كافة الجنود في سبيل إحياء مفهوم الدولة الوطنية، ومن ثم البناء على هذا النهج كمنطلق يحول دون تكريس مفهوم التقسيم على أسس ذات طابع مذهبي أو إثني أو جغرافي. كما أننا نناشد الفريق الحكومي الحالي في بغداد بالماضي قدما نحو ترميم روابط العراق مع محيطه العربي، الأمر الذي من شأنه تعزيز فرص إسهام الدول العربية -من بينها مصر- في إطار المساعي القائمة لإعادة بناء وتدريب الجيش العراقي بغية تمكين هذا البلد العزيز من دخر شأفة الإرهاب.
ازمة اليمن
وقال العرابي في كلمته : كما ترون، فإن اليمن الشقيق يعاني اليوم من تشرذم يهدد وحدة الدولة، وأمنها، بل وأمننا جميعاً، وأمام الاستغاثة الصادرة من أشقائنا في اليمن، وأمام الإجماع العربي على ضرورة التدخل بما يحفظ أمن اليمن وسلمه ودعم الشرعية، لم تكن مصر لتستطيع أن تصم آذاتها عن تلك الاستغاثة، ولا كان لها أن تتعامى عن رؤية هذا الإجماع دون أن تكون في القلب منه، وعليه.. فقد أعلنت مصر مشاركتها في الجهد الإيجابي العربي من أجل تحقيق الاستقرار في اليمن، لا لتحقيق أجندة طائفية كما يروج البعض، بل من أجل ضمان سلامة الأمن العربي القومي وصيانته من التدخلات الخارجية التي تنشر الفوضى والمشاكل.
واضاف قائلا : أربعة أعوام مضت ولا زالت الأزمة في سوريا تراوح مكانها، لقد اندلعت شرارة الثورة السورية في مارس 2011 رافعة شعار السلمية، ذلك الشعار الذي ما لبث وأن تم تقويضه بالكامل بسبب أخطاء في التعاطي الأمني والسياسي أدت إلى انزلاق البلاد إلى دوامة متصلة من العنف والفوضى، يدفع ثمنها الشعب السوري الأبي من دمائه ومن حريته، بعد أن صارت بلاده مرتعاً للحركات التكفيرية، وحاضنة للإرهاب الذي تغذيه التوترات الإقليمية.
لقد دافعت مصر دوماً عن ضرورة تكثيف الجهود الدولية والإقليمية من أجل التوصل لتسوية سياسية في سوريا على أساس بيان جنيف، وبما يحافظ على سيادة ووحدة أراضي الدولة السورية ويحقق طموح أشقائنا السوريين في التغيير وتكريس مفاهيم الديمقراطية والحريات. ومازلنا نرى أن تلك التسوية هي السبيل الوحيد لتوحيد الصف السوري ضد الإرهاب والطائفية والتواجد الأجنبي في سوريا.
واستناداً إلى ذلك الفهم، شرعت مصر في تبني عملية سياسية تستهدف تقريب رؤى ووجهات نظر القوى الوطنية السورية المعارضة، وهي العملية التي تحرص مصر على أن تكون سورية بحتة، مع تقديم الرعاية والدعم السياسي إن لزم الأمر، كما تحرص كذلك على أن تتسم تلك العملية بالاستقلالية التامة بعيداً عن أية مؤثرات خارجية، تلك المسيرة نعتزم على استكمالها بعقد مؤتمر موسع للقوى الوطنية السورية بمصر في الربيع الجاري، عل تلك الجهود قد تفضي إلى بلورة مسار سياسي واضح وجامع لمختلف الأطياف الوطنية السورية، يحقن دماء السوريين، ويساعد في الوصول إلى حل سياسي يقي سوريا وشعبها ويلات الحرب وشرورها.
الوضع الحالي في ليبيا
واتصالاً بجملة التحديات والتهديدات التي تحيط بالمنطقة، يقف الوضع الحالي في ليبيا ماثلاً أمامنا كأحد أبرز تلك التحديات، فبعد أن خرج الوضع عن السيطرة بخروج قوى داخلية ذات مرجعيات أيديولوجية عن المسار الانتقالي المتفق عليه بين الفرقاء الليبيين، واللجوء لقوة السلاح وسياسة الأمر الواقع لاكتساب شرعية فشلوا في اكتسابها عبر صناديق الاقتراع. امتد الوضع، بشكل أخطر وأكثر تهديداً، إلى استغلال تنظيمات إرهابية وجهادية لسيولة الوضع العسكري والأمن في التمدد واكتساب القوة والنفوذ، لتصبح الدولة الليبية ودول جوارها، بل وكامل المنطقة، أمام تهديد إرهابي غير تقليدي عابر للحدود.
مصر تسترجع مكانتها
وقال العرابي إن مصر اليوم تسترجع مكانتها التي طالما تعودتم عليها.. في القلب من قضايا أمتها العربية.. وكلها عزم على ترميم ما تقوض خلال الأعوام الماضية، إن ما تشهده المنطقة حالياً من تحديات، يفرض على دولنا العربية العمل والتضامن المشترك... لعبور عنق الزجاجة الضيق والخروج منه إلى أرحب طريق، ولعل ما نشهده من تقارب عربي بنّاء، يجعلنا اليوم أشد إيماناً بقدرتنا على تخطي الصعاب طالما اجتمعنا على قلب رجل واحد، من أجل شعوبنا.. ومن أجل أمتنا
دول التغيير العربية والقوى الإقليمية
الجلسة الاولي رأسها الدكتور سالم محمد حميد، مدير عام مركز المزماة للدراسات والبحوث، في دولة الإمارات العربية المتحدة، واستهلها الدكتور بول سالم، نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأمريكية، بتقديم ورقة بحثية بعنوان "دول التغيير العربية والقوى الإقليمية: تبدُّل المصالح والتحالفات"، أوضح فيها أن رياح التغيير لا تزال تعصف بالعالم العربي منذ انتفاضات عام 2011؛ وقد أسفر ذلك عن حدوث تغييرات سياسية عميقة في بعض هذه الدول، والدخول في دوامة الدول الفاشلة والحرب الأهلية في بعضها الآخر. كما تسبب ذلك في صعود "شبه دولة" إرهابية متطرِّفة في قلب المشرق العربي. وفي الوقت نفسه أثّرت هذه التطورات المتسارعة في الأطراف الفاعلة بالمنطقة مثل: دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، ودولة قطر، وجمهورية تركيا، وجمهورية إيران؛ وعدّلت مكانة المنطقة لدى القوى العالمية.
واستعرض الدكتور بول سالم في دراسته الصلات بين هذه الدول، وتغيّر سياسات الأطراف الرئيسية في المنطقة وحظوظها. كما تفحّص مدى التقارب بين مصالح القوى الإقليمية وتنافرها؛ وتأثيرات سياسات تلك القوى في أجزاء رئيسية من الشرق الأوسط؛ والوسائل التي تتيح تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة مستقبلاً.
وقدمت الدكتورة راغدة درغام، مديرة مكتب جريدة الحياة في نيويورك، الرئيس التنفيذي لمعهد بيروت في لبنان، ورقتها البحثية التي حملت عنوان "الأوضاع الراهنة في دول التغيير العربية"، وتناولت فيها ما يشهده كل من اليمن ومصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس من تغيّرات وتحوّلات مهمة خلال السنوات الأخيرة في إطار ما يعرف بـ"الربيع العربي" كانت -ولا تزال- لها تداعيات تتعلق بعلاقات هذه الدول الإقليمية والدولية، سواء على مستوى العلاقات العربية-العربية، أو على مستوى العلاقات مع القوى الإقليمية غي