اطلس- يشعر الكثير من المعنيين بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة العربية بالقلق نتيجة التراجع في أسعار النفط . فهذا الواقع سوف يؤدي إلى تعميق أزمة البطالة والفقر، خاصة بين الشباب في المنطقة، وبالتالي إلى المزيد من العنف السياسي وانتشار الحروب والصراعات المسلحة .
وهذه الصراعات سوف تساهم بدورها في شحذ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بحيث تدخل المنطقة في دائرة جهنمية يصعب الخروج منها في المستقبل القريب . وقد ساءت الأحوال في المنطقة إلى درجة تحتم التسليم بواقعية هذه التوقعات البائسة . رغم ذلك، يعتقد البعض أن تراجع أسعار النفط قد يؤدي إلى بعض النتائج الإيجابية، على المديين البعيد والمتوسط، وعلى الصعد الثلاثة التالية:
أولاً: تنمية القطاعات الإنتاجية:
ويستند هذا التنبؤ إلى الفكرة الرائجة التي تقول إن الواردات النفطية في البلدان العربية هي السبب الرئيسي في عدم ولادة برجوازية وطنية في المنطقة . وبغياب هذه الطبقة فإنه من الصعب نمو قطاعات ناشطة محلية خاصة في مجالي الصناعة والزراعة . خلافاً لهذه النظرة يعتقد عدد من المعنيين بالأوضاع العامة في المنطقة العربية أن الواردات النفطية لم تمنع قيام برجوازية محلية فيها . بين هؤلاء يعتقد، جياكومو لوتشياني، البروفيسور في معهد الدراسات العليا في السياسة الدولية والتنمية في جنيف، أن البرجوازية المحلية العربية موجودة في أكثر الدول العربية النفطية .
الانطباع الناشئ حول غياب هذه الطبقة الاجتماعية في المنطقة ناشئ عن صورة الصراع التقليدي الذي عرفته أوروبا بين نخبة حاكمة متحالفة إما مع طبقة اقطاعية وإما برجوازية تجارية، او مع الاثنتين معاً، وبين برجوازية وطنية تنشأ على معارضة هذا الوضع، وتسعى الى فك الارتباط بين هذا التحالف الحاكم، من جهة، والسوق من جهة أخرى . اما في المنطقة العربية فيرى لوتشياني أن البرجوازية المحلية لبثت على علاقة حسنة مع النخب الحاكمة: لم تعادها حيث إن تكلفة المعاداة عالية جداً في الدولة الريعية، ولكنها من ناحية أخرى لم تكن تابعة لها . أي أنها حافظت على مقدار معقول من الاستقلالية تجاهها . هذا النمط من العلاقة، فضلاً عن القدرات الاقتصادية المتوفرة لها يسمح للبرجوازية المحلية بالاضطلاع بدور ايجابي على الصعيدين الثاني والثالث .
* ثانياً: الإصلاح السياسي:
تعمقت عبر السنوات ومن خلال علاقات الشراكة والصلات التجارية والمصالح المتشابكة والمتداخلة، روح الانتماء الاجتماعي بين افراد البرجوازية المحلية . وقد عبّر هذا الانتماء عن نفسه أحياناً بواسطة الاتحادات المهنية . وفي بعض الدول العربية تحولت مناسبة اختيار أعضاء هيئات الغرف المهنية إلى مجال لبلورة أهداف ونظرات
متقاربة . ويتجاوب هؤلاء مع دعوات المشاركة السياسية التي تصدر في بعض الأحيان عن الاوساط السياسية الرسمية، ولكن نطاق التجاوب معها يتسع باستمرار بحيث يشمل أوساطاً أهلية واسعة، خاصة عند التأكد بأن هذا المسار يساعد على ضمان الاستقرار والتطور السلمي لبلدان المنطقة، أي خلافاً لواقعها الراهن . وعندما نتحدث عن توسع نطاق المتجاوبين مع الدعوة إلى تعميق المشاركة السياسية فإننا لا نتحدث عن عدد ضئيل من السكان، بل عن نسبة عالية ومتزايدة منهم .
ففي البلاد العربية تصل نسبة ابناء الطبقة البرجوازية إلى ما يتجاوز الخمسة في المئة من مجموع السكان . ومن المفترض أن هؤلاء يتأثرون إلى حد بعيد بمصالحهم كفئة اجتماعية محددة . وهذه المصالح لا تجمعهم مع بعضهم بعضاً، فحسب، بل مع أعداد كبيرة من المواطنين أيضاً . فهم بحكم مصالحهم الفئوية يشعرون، على سبيل المثال لا الحصر، بأهمية المؤسسات التعليمية في البلاد . ذلك أن هذه المؤسسات تزوّد سائر القطاعات الإنتاجية والعامة بالخريجين والخريجات . وتعتمد كفاءة هؤلاء الخريجين وقدرتهم الى حد بعيد على أهلية المؤسسات التعليمية التي تخرّجوا فيها وعلى مستواها التعليمي . لذلك فمن مصلحة أرباب العمل أي البرجوازية المحلية تطوير البرامج والمؤسسات التعليمية، وهكذا تلتقي مصالح رجال الأعمال مع مصالح الأهلين الذين يحرصون على توفير مستويات علمية متقدمة لأولادهم، كما تلتقي أيضاً مع مصالح العاملين في الحقل التعليمي، سواء تجسدت في تأمين الرواتب المناسبة لهم أو في توفير وسائل التعليم الحديثة . وهذا التلاقي على مستوى الاهتمام بتطوير قطاع التعليم يتكرر في اكثر من قطاع، كما يتكرر أيضاً في مجال التفتيش عن وسائل وسبل لتنمية واردات الدولة والمجتمع والتعويض عن التراجع المؤقت أو البعيد المدى لعائدات النفط، وهذا ما ينقلنا إلى نتائج متوقعة على صعيد حجم السوق المحلية .
* ثالثاً: توسيع السوق
من الطبيعي أن تبحث البرجوازية المحلية باستمرار عن توسيع الأسواق لتصريف منتجاتها . تبدأ بالسعي إلى كسب الزبائن المحليين أولاً، فإذا وجدت أن السوق المحلية وصلت إلى مرحلة الاشباع، تبدأ البحث عن اسواق قريبة ومفتوحة وسهل لولوجها . هذا ما يدعو لوتشياني إلى الاعتقاد بانه في الظروف السابقة، وعندما بلغت عائدات النفط ذروتها، لم تكن لدى البرجوازية المحلية حوافز قوية للتفيش عن الأسواق الخارجية، أما في الظروف الحالية فيعتقد أستاذ العلاقات الدولية الذي وضع مؤلفات كثيرة عن المنطقة العربية بأن المجال مفتوح ومهيأ لتنمية السوق الاقليمية أي العربية بصورة خاصة .
إن الدعوة لقيام السوق العربية الموسعة دعوة قديمة ترجع الى الثلاثينات عندما حاولت الدول العربية تأسيس ما دعي بـ"الحلف العربي" على غرار الحلف البلقاني الذي تأسس في الفترة نفسها تقريباً . ومنذ ذلك التاريخ تكررت المحاولات لتأسيس هذه السوق . آخر المحاولات تجسدت في قيام "منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى" (غافتا) . وتمحورت عملية تأسيس المنطقة على تخفيض الضرائب الجمركية بين الدول العربية وصولاً إلى التخلي عنها . وبالفعل امكن تخفيض نسبة كبيرة من هذه الضرائب، ولكن المشكلة، كما هي في العديد من المنظمات الإقليمية في العالم، بقيت في العقبات غير الجمركية . جياكومو لوتشياني، المتعاطف مع العرب، يبشرهم بأن هذه العقبة قابلة للتذليل، وأن هذا التطور جدير بأن يعوضهم عن خسارة بعض العوائد النفطية.