اطلس- ثمة ما يحمل على الاعتقاد بأن التعديلات التي أُدخلت، بضغط أمريكي، ووعود أوروبية، فرنسية خصوصاً، على مشروع القرار العربي الفلسطيني المُقدم إلى مجلس الأمن
مست جدياً بالهدف المُعلن للمشروع: الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وإنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والاستيطانية عن كامل الأراضي التي احتلت في العام 1967 في مدة زمنية لا تتجاوز العامين .
بل إن المشروع بعد تعديله فقد مغزاه السياسي الأساس في أن يكون خطوة على طريق القطع مع عشرين عاماً ويزيد من الانخراط في مشروع التسوية الأمريكي القائم على تعاقد أوسلو، كتعاقد سياسي أمني اقتصادي قام على التفاوض الثنائي برعاية أمريكية لتسوية الصراع بمقاربة "الأرض مقابل السلام"، لكنه لم يسترجع أرضاً، ولا جلب سلاماً، ولا أوقف عدواناً أو تهويداً أو استيطاناً، ولا جنى ضغطاً أمريكياً على الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، بل صار غطاء لتمادي الأحزاب الاسرائيلية التي تُجمع، وإن بصيغ مختلفة، على اختزال الحقوق الوطنية والتاريخية الفلسطينية، وأدناها المكفول بقرارات دولية، في إقامة حكم ذاتي فلسطيني يحمل اسم دولة، ويضع حداً للصراع والمطالب، ما يعني تصفية القضية والحقوق والرواية الفلسطينية من جميع جوانبها .
هنا، لأن تبني الشروط الإسرائيلية ثابت من ثوابت السياسة الأمريكية ومصالحها في المنطقة التي لا استقرار لها من دون حل القضية الفلسطينية، فقد كان من الطبيعي حد البداهة أن تحرص الولايات المتحدة وحلفاؤها، على استمرار "تعاقد أوسلو"، بل وأن يمارسوا جميعاً، وكل منهم على طريقته، وبما يملك من تأثير ونفوذ، كل أشكال الضغط والتهديد والوعيد والابتزاز والترغيب والوعود لمنع القطع الفلسطيني مع هذا التعاقد والتحلل من التزاماته، وإخراج ملف القضية الفلسطينية من القبضة الأمريكية وإعادته إلى هيئة الأمم المتحدة، ومطالبتها بعقد مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات لتنفيذ قراراتها ذات الصلة لا التفاوض عليها . وبالمثل، لأن إنهاء الانقسام وبناء الوحدة الوطنية، عامل القوة الفلسطينية الأساس، لم يُنجز، ليس ارتباطاً بالخلاف السياسي، فقط، بل بالاختلاف الأيديولوجي والصراع على تمثيل الشعب الفلسطيني، أيضاً، فقد كان من الطبيعي حد البداهة أيضاً بقاء الحركة الوطنية الفلسطينية على ضعفها وعجزها عن تلبية الحد الأدنى من استحقاقات مجابهة ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها.
وبنظرة متأنية في بنود المشروع بعد التعديل يتضح أن تحويله من مشروع قرار يطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية ووضع جدول زمني محدد لإنهاء الاحتلال، كمهمة راهنة من مهام "البرنامج الوطني المرحلي" في "العودة وتقرير المصير والدولة" إلى مشروع قرار يؤكد على تعاقد أوسلو السياسي والتزاماته، من حيث: أولاً: قبول مبدأ استئناف المفاوضات لمدة عام آخر للتوصل إلى حل يجري التفاوض على آليات تطبيقه وإنهاء الاحتلال خلال عامين، وكأن الفلسطينيين سيجنون خلال ثلاثة أعوام غير ما جنوا خلال عشرين عاماً ويزيد من هذه المفاوضات العقيمة والعبثية، بل كأنه لا يوجد مخطط اسرائيلي معلن لزيادة عديد المستوطنين في الضفة الغربية خلال عامين من نحو 800 ألف إلى مليون مستوطن .
ثانياً: تثبيت بند "مبادرة السلام العربية" حول "إيجاد حل مُتفق عليه لقضية اللاجئين"، كبند ملتبس في مشروع قرار دولي، وكأن ذلك لا يساوي مجاراةً للمطلب الاسرائيلي الثابت بشطب القرار 194 الذي يكفل حق اللاجئين الفلسطينيين في التعويض والعودة إلى ديارهم التي شردوا منها . هذا ناهيك عن إيراد بند ينص على أن ما يسمى "حل الدولتين" ينهي الصراع ويضع حداً للمطالب .
ثالثاً: تثبيت القبول الرسمي الفلسطيني والعربي بمبدأ "تبادل الأراضي" في مشروع قرار دولي، وكأن ذلك لا يعادل مجاراة لتفسير إسرائيل للقرار 242: "الانسحاب من أراضٍ" وليس "الأراضي" التي احتلت في العام 1967 .
رابعاً: يُقدم المشروع صيغة ملتبسة حول مكانة القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة، ويقبل بتعويمها وعدم تحديد الحق الفلسطيني فيها، من خلال ما نص عليه: "القدس عاصمة مشتركة للدولتين"، وكأن ذلك لا يجاري الإصرار الإسرائيلي على بقاء (القدس موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل)، مع استعداد للتخلي عن بعض ضواحيها التي يتكدس فيها أغلب المقدسيين، مثل بلدات أبو ديس والعيزرية وشعفاط .
خامساً: اختزال فكرة المؤتمر الدولي في الترحيب "باقتراح عقد مؤتمر دولي يطلق المفاوضات"، وكأن ذلك ليس عودة إلى صيغة مؤتمر مدريد، 1991 ومؤتمر أنابولس 2008 .
بهذا كله لم نعد أمام مشروع يعيد تأكيد التمسك بتعاقد أوسلو، فقط، إنما أمام مشروع لتثبيت هذا التعاقد والتزاماته في مشروع قرار دولي من شأن إقراره أن يجرد الفلسطينيين من قرارات دولية سابقة تكفل الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية الفلسطينية، ويعطي حكومات الاحتلال، حتى قبل بدء التفاوض، قراراً دولياً يعزز مطالبها وشروطها التعجيزية .
وهذا ما يفسر دعوات أشد الفصائل الفلسطينية حماسة لخطوة التوجه لمجلس الأمن أو إلى أيٍ من مؤسسات الأمم المتحدة الأخرى، إلى رفض مشروع القرار وسحبه من على قاعدة "سحب المشروع أفضل من إقراره"، بعد أن أفقدته التعديلات عليه أن يكون خطوة في سبيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال، أو خطوة تؤسس لخيار سياسي بديل عن خيار تعاقد أوسلو، كتعاقد لم يعد التمسك به مجرد سيرٍ في خيار عبثي وعقيم، فقط، بل مدمر أيضاً، بعد أن أخذ من الفرص أكثر مما يجب، وطالت مدة تجريبه أكثر من اللازم، وأقتنع بعقمه حتى أكثر القيادات الفلسطينية مرونة، وصارت مخاطر التشبث به تهدد جدياً القضية والحقوق الوطنية، وتضرب في العمق مكانة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار وطني جامع، وممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وقائد لنضالاته، وصيغة فلسطينية للجبهة الوطنية في مرحلة تحرر وطني لم تنتهِ بعد.
بل وثمة في راهن الهجوم السياسي والميداني الاسرائيلي الشامل والمتصاعد، والتبني الأمريكي لهذا الهجوم، ما يحمل على الجزم، بأن لا متسع ولا مجال لتسوية سياسية للصراع تلبي، ولو الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، من دون العودة إلى خيار الوحدة والمقاومة.