تعامل الجيش الأرجنتيني مع قضية قتل النساء الحوامل بطريقة مختلفة، حيث كان يسمح لهن بالولادة داخل السجن أولا، ثم يتم قتلهن بعد أيام قليلة، ليعطى الأطفال بعد ذلك لعائلات عسكرية. وكانت هناك قوائم لدى الجيش بأزواج العسكريين الذين لايستطيعون الإنجاب ويرغبون في تبنيهم.
وكانت السلطات الأرجنتينية تعتقد وقتها أنه إذا ترعرع الأطفال على طريقة "سليمة" من التفكير السياسي، فإن هذا كفيل باستبعاد الأفكار اليسارية الهدامة والتخريبية المأخوذه من والديهم.
مولود في المعتقلوبعد انتهاء فترة الحكم العسكري وبداية الحكم المدني عام 1983 أدرك عدد كبير من الأسر التي اختفى أبناؤها أنه لم يعد هناك أمل في عودتهم.
لكنهم عقدوا العزم على معرفة مصيرهم، ونظموا تجمعا عرف باسم "أمهات بلازا دي مايو" نسبة إلى الميدان الذي تجمعن فيه أمام القصر الرئاسي لمعرفة مكان وجود أبنائهن.
وبعدما تبين أن بعض المختطفات اللاتي لاقين مصيرا مجهولا قد أنجبن خلال وجودهن في المعتقل، قررت الحركة تغيير اسمها إلى "جدات البلازا دي مايو"، وبدأت عضوات الحركة في البحث عن أحفادهن المختفين.
وكان غييرمو واحدا من هؤلاء الأطفال المسروقين.
"لقد ولدت هنا"قالها غييرمو بينما كنا نسير في الممرات المظلمة بمدرسة الميكانيكا التابعة للبحرية الأرجنتينية الموجودة في بيونس آيرس والتي تحولت إلى نصب تذكاري للمختفين، ولكنها كانت أيام الحكم العسكري واحدة من السجون العسكرية الأرجنتينية الأسوأ سمعة، ولم ينج منها سوى 150 شخصا.
يقول غييرمو :"كانت أمي مقيدة إلى طاولة عادية وليست طاولة طبية أثناء الولادة، وكان معها طبيب عسكري وسجينتان للمساعدة".
كان والدا غييرمو في العشرينيات من العمر عندما اعتقلهما الجيش، ويؤكد الابن أن جريمتهما فقط كانت النضال ضد الديكتاتورية وأنهما :"كانا يريدان التغيير والحرية والديمقراطية والمساواة."
ويروي أنه بعد الولادة طلبت أمه من الطبيب أن تحمله. ويضيف "أطلقت علي اسم رودلفو فرناندو غييرمو، وأخبرتني أنها أمي".
وكانت هذه هي آخر مرة يقابلها فيها.
بحث بلا كللتحدثت الجدات في الاجتماعات العامة، حصلن على اعتراف من المنظمات الحقوقية الدولية، واستخدمن محطات الراديو والتلفزيون في عملية البحث.
وأخيرا بدأت الأمهات في تلقي مكالمات مجهولة ومعلومات بشأن الأطفال المسروقين، وبعد 25 عاما من ميلاد غييرمو تلقت عائلته البيولوجية "رويسنبلت" مكالمة تخبرهم بإمكانية العثور على صبي يمكن أن يكون حفيدهم.
قام غييرمو وروزا رويسنبلت بإرسال عينات من الدم لعمل تحليل جيني لها في بنك المعلومات الذي قامت حركة الجدات بتأسيسه من أجل احتمالية إعادة الأطفال المسروقين إلى أجدادهم.
وبعد شهر تلقت روزا مكالمة بنتيجة الفحص، وتتذكر قائلة :"قالت لي، روزا إنه حفيدك، فرحنا وقفزنا وصرخنا وبكينا وضحكنا ثم قفزنا ثانية".
كان رد فعل غييرمو مختلطا، يؤكد أنه شعر بالارتباك والخوف والحزن. ولكنه أيضا شعر بأنه أضاع الكثير من الوقت قبل أن يعرف عائلته البيولوجية، يقول :"لقد قضيت جزءا من الوقت مع من كنت أظنهم عائلتي، ولكنهم لم يكونوا كذلك، لقد سرقوا جزءا من حياتي".
ويؤكد غييرمو أنه كره والده بالتبني لأنه كان عنيفا، ولكنه أحب المرأة التي قامت بدور أمه لعشرين عاما، ويقول :"لازلت أذهب لرؤيتها، ليس من السهل قطع الروابط".
حقائق مؤلمةولكن تقبل الحقائق المؤلمة لم يكن سهلا بالنسبة لكل الأطفال المسروقين.
فيكتوريا مونتينيغرو، تربت كابنة لقائد عسكري كان قد تبناها، وعندما تم إخبارها باحتمالية ألا يكون والدها الحقيقي، وأنه ربما أمر بقتل والديها الحقيقيين، رفضت التصديق.
وردت فيكتوريا قائلة "لست أريد أن أعرف أي شيء حيال عائلتي الحقيقية"، وأكدت أنها غاضبة من حركة الأمهات والجدات اللاتي أخبرنها بأن أمها هي هيلدا رومانا توريس التي قتلت بعد عشرة أيام من ولادتها، وتضيف :"لقد كرهتهن من كل قلبي".
وأكدت أنها كانت مقتنعة بأنها ابنة القائد العسكري وأن الحركة تستهدفه لأسباب سياسية، وتتذكر :"لقد نشأت على يقين بأن بلادنا خاضت حربا وأن أبي قاتل فيها، وأنهن يطاردنه للانتقام منه".
وأخيرا وافقت فيكتوريا على إجراء تحليل للحمض النووي من أجل إثبات هويتها، واعتقال أعضاء الحركة.
ولكنها قالت إن مشاعرها تجاههن تغيرت بشكل جذري و"لم أعد أستطيع أن أفعل شيئا معهن إلا الحب".
وأضافت "كانوا يتعاملون معنا كغنيمة في الحرب، وأنا الآن أرى أنني يجب أن أسترد حياتي من خلال معرفة هويتي الحقيقية".
ولم تتوقف الجدات عن الاستمرار في البحث، روزا ذات الـ92 عاما وحفيدها الذي عاد إليها غييرمو مستمران في البحث عن الباقين، وتقول بابتسامة واسعة :"لقد وجدنا 108 أطفال هذا العام"، ولكن وجهها تحول إلى الحزن والتصميم وهي تقول " لكن لايزال أمامنا 400 طفل آخرين سنستمر في البحث عنهم".