اطلس- بغض النظر عن تقويم عملية القدس ومثيلاتها، من النواحي السياسية او الأخلاقية أو الجدوى الكفاحية، نخطئ كثيراً عندما نذهب إلى التعامل مع هذا الحدث، في لحظته، وفي معزل عن أسبابه، لأن ذلك قد يأخذنا نحو فخّ المساواة بين المعتدي والضحية، المستعمِر والمستعمَر، المعتدي والمعتدى عليه حقاً.
في الواقع، فإن إسرائيل بالسياسات التي تنتهجها، منذ قيامها، هي التي تتحمل مسؤولية ما يجري للفلسطينيين ولليهود. لذا ليس صحيحاً، ولا لأي سبب، المساواة بين غير المتساوين، او ادعاء وجود حقين متساويين، فالحقوق لا تبنى على الاستثناء، أو باستلاب حقوق شعب بواسطة القوة والغلبة، وإنما تبنى على التكافؤ في الحرية والعدالة والمساواة، فكيف إذا تعلق الأمر بمشروع يرتكز على ادعاء حق يهود العالم بفلسطين، بدعوى الوعد الإلهي، وبدولة يشكّل وجودها آخر ظاهرة احتلالية عرفها العالم.
هكذا، فإن منهج لوم الضحية على يأسه وغضبه وتمرده وانفجاره، أو على قلة حيلته، غير مفيد، ولا معنى له، وهو منهج خاطئ منطقياً، وغير مصيب اخلاقياً، في واقع مملوء بالمواربة والتلاعب وانحيازات القوة والتماهي مع السرديات المهيمنة. بيد أن هذا اللوم قد يصحّ لو أن عمليات كهذه أضحت بمثابة نهج لجماعة ما. حينها يمكن مساءلتها ونقدها ومحاكمتها، وفق حسابات الجدوى، وخطل الرؤية السياسية.
المشكلة أن سياسة لوم الضحية التي تتوخّى، في الأغلب، ادّعاء ترفّع أخلاقي عند البعض، تنمّ عن دونية ازاء المستعمِر، وتماهٍ مع روايته، ورضوخ لادعائه بحقوقه، مع ما في ذلك من تنكّر، او استبعاد للضحية، أي للضعيف او المهمش، وبالتالي للذاكرة والهوية، كما للحقيقة والعدالة.
على ذلك، فإن محاكمتنا لعملية ما قام بها شخص هنا او هناك، وقد فقد الأمل في تغيير مصيره، بعدما سدّت في وجهه كل الطرق، لا تستقيم من دون رؤية الظروف التي صنعت هذا الشخص، وجعلته يصل الى ما وصل اليه، لا سيما اننا لا نتحدث عن صراع مع دولة نشأت في ظروف تاريخية طبيعية.
ربما الأوجب، في هذا المقام، أن نتذكر أن إسرائيل، نشأت بفضل ثلاثة عوامل: الهجرة، والقوة العسكرية، ودعم الدول الكبرى. أي انها لم تنشأ نتيجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لليهود في فلسطين، فهؤلاء تزايد عددهم، أصلاً، نتيجة الهجرة المنظمة والمدعومة، قبل قيام الدولة وبعده. ومثلاً، فقد هاجر في عقد التسعينات إلى إسرائيل حوالي مليون من يهود الاتحاد السوفياتي (السابق)، على حساب الفلسطينيين، بخاصة اللاجئين المحرومين من الوطن والهوية والحياة الكريمة. كما ينبغي ألا ننسى أن هذه دولة متطرفة، باعتبارها ذاتها دولة يهودية، تحرم الفلسطينيين من حقوقهم، في الأرض والمياه والموارد وحرية الحركة والتطور المستقل، مستغلة قوتها العسكرية، وتغطية الدول الكبرى لها.
في الغضون، قد يجدر الانتباه إلى أن إسرائيل هذه لم تترك اية نافذة خلاص امام الفلسطينيين، حتى «المعتدلين» منهم، إذ تملصت من عملية التسوية على رغم كل ما قدم لها من تنازلات، بل إنها في ظل اتفاق أوسلو (1993) الناقص والمجحف، واصلت بناء المستوطنات لقضم أراضي الضفة، وقطع التواصل بين الفلسطينيين، فضلاً عن انتهاكها مقدساتهم، وحتى حرمانهم من الصلاة في المسجد الأقصى.
ويبدو واضحاً مما يجري أن قيام السلطة بالاعتراف بإسرائيل على حدود 77 في المئة من ارض فلسطين، ومواصلة تعهّدها بالتنسيق الأمني معها، لم يشفع لها، ذلك أن إسرائيل تريد من القيادة الفلسطينية ان تعترف بها بصفتها دولة يهودية، وبروايتها التاريخية، أي انها تطالب بتبرئتها بمفعول رجعي من كل الانتهاكات التي اقترفتها بحق الفلسطينيين منذ قيامها (1948)، مقابل اعترافها بقيام دولة لهم ذات سلطة محدودة لإدارة احوالهم. أي أن إسرائيل تريد أن يقبل الفلسطينيون باستمرار الاحتلال، مباشرة او مداورة، وأن يرضخوا لاستمرار الاستيطان، وان يذعنوا للهيمنة الإسرائيلية عليهم، والتمييز ضدهم، ومصادرة حقوقهم، وفي الوقت نفسه أن ينبذوا كل أشكال المقاومة، سلمية او مسلحة، شعبية او فصائلية، وأن يظهروا كل علامات الخنوع لإسرائيل، والامتنان أيضاً!
وينبغي لفت الانتباه هنا الى أن القصة ليست لها علاقة باستهداف الإسرائيليين الثلاثة في الخليل قبل اشهر، ولا الخمسة في القدس أخيراً. فهؤلاء مستوطنون يشكل مجرد وجودهم اعتداء على الفلسطينيين، ومصادرة لحقوقهم، وتهديداً لحياتهم. ففي عهد الرئيس عباس (2005 ـ2014)، أي بعد رحيل ياسر عرفات، قتلت إسرائيل حوالي 6400 من الفلسطينيين، وجرحت أضعافهم، وخلال تلك الفترة شنت ثلاث حروب مدمرة على غزة. وفي العام الماضي (2013)، مثلاً، قتلت إسرائيل 38 من الفلسطينيين في الضفة، من دون سبب، في حين لقي ستة إسرائيليين فقط مصرعهم. وفي الحرب الاخيرة على غزة قتلت إسرائيل 2300 من الفلسطينيين مقابل 72 إسرائيلياً منهم ستة فقط من المدنيين.
المؤسف أن خطاب لوم الضحية لا يرى كل ذلك، حتى لو اعترف بأن إسرائيل دولة احتلال، إذ لا يرى أنها دولة متطرفة بكل معنى الكلمة، وأن الاحتلال والتطرف نطويان على إرهاب وقهر الشعب المستعمَر، وإلا ما معنى مصادرة الأراضي وحصار الفلسطينيين وتقييد حريتهم ومصادرة حقوقهم في العيش الكريم؟ صحيح ان إسرائيل لا تستهدف بالسكين، او بالدهس بالسيارات، لكنها تستهدف وتدمر بالجملة بواسطة الطائرات والدبابات والمدفعية والرصاص الحي. وفوق ذلك، فهي تعتقل من دون محاكمات، بمعدل أربعة آلاف كل عام، أي انها تدمر حياة أجيال من الشباب. وإلى سلاح الاعتقال المدمر، ثمة سلاح آخر يدمر حياة الفلسطينيين يتمثل بهدم البيوت بدعوى عدم الترخيص، علماً انها في الأراضي المحتلة (في الضفة والقدس)، ففي القدس وحدها تم هدم حوالي ألفي منزل منذ احتلالها (1967)، وهدم البيوت هو شكل من أشكال العقاب الجماعي غير المشروع، إذ يستخدم كوسيلة لإرهاب الفلسطينيين والتضييق عليهم وإزاحتهم من الزمان والمكان. ثمة أيضاً السلاح التدميري المتمثل بالمستوطنات التي تستحوذ على 42 في المئة من مساحة الضفة الغربية!
الجدير ذكره أيضاً أن إسرائيل تترك الحبل على الغارب للمستوطنين والمتطرفين الذين يهاجمون الجوامع والمزارع والمداجن ومحاصيل الزيتون، تحت حماية الجيش، والذين يعتدون على الفلسطينيين بالهراوات والسكاكين وبالدهس وبإطلاق النار (كما فعل باروخ غولدشتاين في الخليل)، وبالحرق (حادثة الشهيد محمد أبو خضير) والشنق (حادثة يوسف الرموني)، علماً ان إسرائيل لم تقدم أياً من الفاعلين الى المحاكمة.
ومثلاً، يتعرض المسجد الأقصى للانتهاك المستمر من جانب المتطرفين اليهود، فقد تعرض للحرق (1969)، وارتكبت فيه مجازر عدة (1990 و1996 و2000)، قضى في كل واحدة منها العشرات، ناهيك عن المجزرة في الحرم الابراهيمي بالخليل (1994) التي ذهب ضحيتها 50 من الفلسطينيين، علماً ان بضع مئات من المستوطنين المتطرفين في الخليل يتحكمون بالمدينة التي يناهز عدد سكانها 600 ألف.
المعنى ان الفلسطينيين هنا هم الضحية، فهم الذين يقتلون، وتدمر بيوتهم، ويخضعون للحصار، وتصادر حقوقهم، وهذا هو الواقع الذي أنجب غسان وعدي أبو الجمل ومعتز حجازي، وأمثالهم، علماً ان هذه المكانة لا تعفي الفلسطينيين من النقد، أو من مسؤولية توخي الحكمة والتبصر في خطاباتهم وأشكال كفاحهم.