اطلس- في آذار الماضي تراجعت الحكومة الاسرائيلية عن تعهدها إطلاق "الدفعة الرابعة" من قدامى الأسرى، ما أدى إلى وقف جولة المفاوضات التي قادها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري . ولم تنجح جهود الأخير في اقناع القيادة الفلسطينية باستئناف المفاوضات بفعل تبنيه لمطالب الحكومة الاسرائيلية التعجيزية وشروطها الرافضة حتى للتجميد المؤقت الجزئي والمحدود لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، وتحديد خطوط 4 حزيران 1967 مرجعية للتفاوض، ناهيك عن التمسك بمطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي" .
لم تكن مطالب وشروط الحكومة الاسرائيلية هذه تعبيراً عن تشدُّدٍ تفاوضي، بل تعبير عن سياسة هجومية لاستكمال تنفيذ مخطط اسرائيلي استراتيجي . ففي مقابل المطلب الفلسطيني بالإفراج عن الأسرى تم تصعيد التنكيل بهم، بل وسن "الكنيست" قانوناً أساسياً يمنع الإفراج السياسي عن أسرى فلسطينيين من ذوي الأحكام المؤبدة والعالية قبل مرور 40 عاماً على اعتقالهم .
وفي مقابل المطلب الفلسطيني بالوقف الشامل والكلي لعمليات مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، جرى تكثيف هذه العمليات بصورة غير مسبوقة، بل ويتجه "الكنيست" لمناقشة مشروع قانون أساسي ملتبس ينص على "تطبيق القانون الإسرائيلي على الضفة الغربية"، ما يعني، على الأقل، تحويل الضم الواقعي للكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة إلى ضم رسمي معلن على غرار ما تم في القدس والجولان .
وفي مقابل الرفض الفلسطيني الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي"، تدعم أغلبية مكونات حكومة نتنياهو تسريع سن قانون أساسي يكرس إسرائيل غير محددة الحدود "دولة لليهود" في جميع أماكن وجودهم .
وفي مقابل التزام قيادة "السلطة الفلسطينية" بشقيها في الضفة وقطاع غزة ب"التهدئة" الميدانية، لم تكتفِ حكومة الاحتلال بشن حرب مبيتة على قطاع غزة، بل بادرت إلى شن هجمة تهويدية على القدس لحسم معركتها أرضاً وسكاناً ومقدسات . وفي مقابل المطلب الفلسطيني بوضع حدٍ لفلتان المستوطنين في الضفة والقدس غطت الحكومة الاسرائيلية،
اعتداءات هؤلاء المستوطنين، ما شجعهم على تصعيد انتهاكاتهم إلى حدود حرق فتى حياً وشنق آخر وتصعيد عمليات الاعتداء متعددة الأشكال على حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم ومقدساتهم، عموماً، وعلى المسجد الأقصى، خصوصاً .
في العام لا يختلف النهج الهجومي للحكومة الاسرائيلية القائمة عن نهج كل ما سبقها من حكومات، لكن ما يميزها، ارتباطاً بتركيبتها هو أنها تصنع قراراتها السياسية والميدانية، بائتلاف يجمع الجناحين العلماني والديني ويشغل الوزارات الأساسية فيها وزراء يسكنون المستوطنات، ويتقلد أعضاء في الجناح الديني ثلث المراتب العليا والمتوسطة في الجيش والأجهزة الأمنية .
هذه حقيقة لا يحذر من عواقبها الفلسطينيون وحدهم، بل وجهات سياسية وإعلامية وعسكرية وأمنية اسرائيلية، أيضاً .
وكان لافتاً وذا دلالة كبيرة أن يتهم رئيس جهاز المخابرات العامة، يورام كوهين، من شجع على اقتحامات الأقصى من وزراء وأعضاء "كنيست" وحاخامات بالمسؤولية عن التصعيد الجاري في القدس، بل وينفي مزاعم نتنياهو، ومعه نفتالي بينت وليبرمان، حول تحميل الرئيس الفلسطيني لهذه المسؤولية. ماذا يعني هذا الكلام؟
يعرف القادة الاسرائيليون أن تصعيد هجومهم السياسي، وبالتالي الميداني، لم يكن ليجني غير وأد خيار عشرين عاماً من المفاوضات العبثية، وانفجار بركان الفلسطينيين الماثل في الهبّة الشعبية التي انطلقت من القدس في حزيران الماضي، وبلغت ذروتها في العملية التي لم تستهدف كنيساً للصلاة كما أُشيع قصداً وعمداً، بل استهدفت معهداً دينياً لتعليم التلمود. ويعرف هؤلاء بقيادة نتنياهو أن إدماء هذه الهبّة السلمية والإيغال في ملاحقة نشطائها واعتقالهم لم يكن ليفضي إلا إلى تواصلها وتصاعدها إلى باقي مدن وأرياف الضفة ومناطق الداخل . بل ويعرفون أيضاً أنهم أمام مقاومة شعبية عصية على الردع ولديها - كل مقاومة شعبية - القدرة على ابتكار أشكال نضالية لم تخطر ببال، وتختزن خبرة قرنٍ من النضال الوطني الفلسطيني.
هذه حقائق يعرفها أركان حكومة نتنياهو بجناحيها الديني والعلماني، لكنهم، كأسلافهم، لا يعترفون، ولن يعترفوا، أنهم من يتحمل مسؤولية تأجيج الصراع، ما داموا يرفضون التسوية السياسية، ولو في حدود التخلي عن الأراضي التي احتلوها في العام 1967 والاعتراف بحق اللاجئين في التعويض والعودة إلى ديارهم الأصلية، وفقاً للقرار الدولي 194.
وأكثر، يعرف أركان هذه الحكومة أن الصراع ليس صراعاً دينياً، وأن حركة التحرر الوطني الفلسطيني لم تسقط قط في رذائل "اللاسامية"، معاداة اليهود كيهود، بل ظلت منذ انطلاقها في عشرينات القرن الماضي تخوض نضالاً سياسياً وطنياً تحررياً متعدد الأشكال ضد احتلال استيطاني إقصائي. بل ويعرفون أنهم وأسلافهم من أعطى الصراع بعداً دينياً باستخدام "المسألة اليهودية" غطاء لمشروعهم ضد شعب لا علاقة له من قريب أو بعيد بما وقع لأتباع الديانة اليهودية من اضطهاد في دول شرق وغرب أوروبا.
قصارى القول: تؤكد هبّة القدس، بل انتفاضة القدس بتوصيف القادة الاسرائيليين أن خيار المقاومة الشعبية هو الخيار القادر على التصدي للمخطط الاسرائيلي وتفجير خلافاتهم وتناقضاتهم، ما يستدعي توحيد الصفوف خلف هذه الهبّة سياسياً وميدانياً، لا فلسطينياً فحسب، بل عربياً بالمعنييْن الرسمي والشعبي، أيضاً.