اطلس-عندما تدخل البلطات والسكاكين والقضبان الحديدية الى المشهد، ويقابلها اجراءات دولة عظمى تمتلك قدرات هائلة على الردع والانتقام، فإن اخطر نتائج ذلك هو أن الصراع الفلسطيني الاسرائيلي،
دخل مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة "اللاقواعد"، وهذه المرحلة تتميز عن غيرها من المراحل التي ألفنا قواعدها ووسائلها، بأن السيطرة عليها تبدو مستحيلة من جانب الطرفين، فلا قوة الردع الاسرائيلية تقدم حلولا نهائية حاسمة ، ولا العقلانية الفلسطينية المفرطة تملك أي قدر من وسائل التأثير على حاملي البلطات والسكاكين والانفعالات الحادة التي تمور في النفوس كلما تعرض معلم ديني للأذى.
وخطورة مرحلة " اللاقواعد" انها تجر الجميع الى ملعب العنف، دون ان يكون للجميع قدرة على تفادي النتائج الكارثية لهذا النوع من الصراع ، بل ودون ان يكون بمقدور أي متدخل خارجي وضع صيغة سياسية ، تضع حدا له او على الاقل تنافسه في مجال العمل السياسي.
قواعد الصراع القديمة كانت معروفة بل ومحفوظة عن ظهر قلب ، إلا ان طابعها الاعم كان مدموغا بختم العمل الوطني ضد الاحتلال ، وكان رد الفعل الاسرائيلي مختوما بالوسيلة التقليدية المفضلة عند المحتل لقمع الناشطين ضده بوسائل جراحية ، دون الاقتراب من الوسائل السياسية، وهذه القاعدة المألوفة جعلت العالم ينظر الى الصراع نظرة موضوعية فيدعو الى انهائه باقامة دولة فلسطينية مستقلة ويدعو اسرائيل في الوقت ذاته الى التعاون في مسيرة سلمية ، تفضي الى حل الدولتين الذي هو كلمة السر لتحقيق مصالح كل الاطراف ، بدءًا من الفلسطينيين والاسرائيليين مرورا بالمنطقة القريبة وانتهاءً بالمصالح الدولية الاشمل.
ومع ان هذه القاعدة المنطقية للصراع، تعثرت في مراحل متعددة، وشهدت انهيارات قوية كادت تنهي امكانية الحل السياسي الى غير رجعة ، الا انها كصيغة، كانت الاقوى صمودا في الواقع والاكثر مدعاة للتفكير في حلول وسط، خصوصا من جانب جزء هام من الرأي العام الاسرائيلي ، مع جزء أهم على الجانب الفلسطيني، مع غلاف عربي ودولي ان لم يكن قادرا على تنفيذ صيغة حل الدولتين إلا انه كان قادرا على جعلها ممكنة وليست مستحيلة .
ولاشك ان ما يجري في القدس من اعمال بالغة القوة ورد فعل اسرائيلي في غاية الشراسة ، بدأ يوجد معادلة جديدة بل وبدأت بادخال الجميع الى دوامة حرب إن لم تكن دينية فهي تحظى بغلاف ديني، ومهما حاولنا النأي عن المجال الديني في الصراع، وتمسكنا بالمجال السياسي من خلال اصرارنا على انها معركة وطنية شاملة من اجل الحرية والاستقلال، إلا ان دخول المسجد الاقصى والهيكل الى المعادلة ، فرض واقعا مختلفا هو اقرب الى الحرب الدينية منه الى أي توصيف آخر، ولعل ما يذكي نار هذا الاعتبار الذي نخشاه ، هو المحيط الذي يفرض نفسه على المنطقة بأسرها ، فلا ينبغي ان يغيب عن البال أنه تجري على تخومنا حرب عالمية بكل ما للكلمة من معنى، وعنوان هذه الحرب هو القضاء على مشروع دولة دينية والقضاء على مشروع دولة غلّفت نفسها بالدين، فاستقطب الغلاف آلافا مؤلفة من البشر .
واذا كان الوطنيون الفلسطينيون يحاولون النأي بقضيتهم عن هذا البعد الخطير في الصراع، ويعملون بكل طاقتهم ، كي لا تختم حركتهم الوطنية بخاتمها المرفوض دوليا ، الا ان الخطر يظل ماثلا فنحن جزء من هذه المنطقة ولا احد يساعدنا على التميز بكفاحنا المشروع عن احد اطراف هذه الحرب المشتعلة حولنا.
ان من مصلحة الفلسطينيين ان تظل صورة كفاحهم وطنية بامتياز، وان يظلوا في نظر العالم حركة تحرر وطني ذات مشروع انساني تحرري حضاري، لهذا يتحمل الاقليم والعالم بأسره، مسؤولية نصرة البعد لوطني والسياسي والحضاري في كفاحهم، ولا جدال على ان اسرائيل تتحمل قسطها من المسؤولية عن ذلك .
الفلسطينيون لا مطالب تعجيزية لهم ، فهم يريدون دولة على الجزء الذي احتل في العام 1967، وحين يحصلون عليها سوف ينصرف جهدهم من اجل بنائها والعيش في أفيائها ، أسوة بباقي شعوب الارض التي تملك دولا ومجتمعات ، فالفلسطينيون وحدهم من لا يزالون على وجه الارض لا يملكون هذا الامر.
ماذا سيحدث غدا او بعد غد بعد اقتراب خطر اللعب بلا قواعد على بلادنا ؟ لا احد يعرف على وجه الدقة ، الا ان التداعيات السلبية لذلك ستكون هي الاكثر رجوحاً، وعلى العالم الحريص على رؤية هدوء واستقرار في بلادنا يساعد على الهدوء والاستقرار في المنطقة بأسرها، ان يتحرك على الفور ، فكل تأخير يعني بداهة تدهورا كارثيا يصعب تطويقه او الحد منه.