اطلس-يقول المتابعون عن كثب المفاوضات بين إيران والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا (5+1) إنها تجري على مستويين وفي مكانين بصورة متزامنة: مفاوضات تجري في جنيف، وهي تركز على مسألة البرنامج النووي الإيراني، ومفاوضات أخرى تجري في واشنطن بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين
وتتمحور المفاوضات الأخيرة حول العلاقات والمصالح المشتركة بين الجهتين وخاصة قضايا الشرق الأوسط . المفاوضات الأولى تستأثر باهتمام محافل السياسة الدولية والإعلام العالمي، أما الثانية فإنها تجري بعيدة عن الأضواء، وفي أجواء من التكتم . هذا لا يعني، بالضرورة، أن مفاوضات واشنطن أقل أهمية من مفاوضات جنيف، فكلاهما مهم خاصة بالنسبة إلى العرب .
وحيث إنه من المتوقع أن تؤثر نتائج المفاوضات، سواء في جنيف أو واشنطن في مستقبل المنطقة العربية تأثيراً كبيراً، وحيث إن هناك صراعاً إيرانياً-عربياً، فقد دعت أوساط عربية إلى التنبه إلى دقة وحساسية المفاوضات التي ستدخل مرحلتها الأخيرة خلال الأسبوع المقبل . ومن قبيل الاحتياط ورداً على ما رشح عن المفاوضات من علامات صحو في العلاقات الأمريكية-الإيرانية، فقد طالبت هذه الأوساط واشنطن بتقديم المزيد من التطمينات إلى العواصم العربية المعنية . صحيح أن المسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي أوباما، زاروا المنطقة لهذا الغرض تحديداً، وصحيح أنهم أكدوا التزام الولايات المتحدة بموجبات التحالف والصداقة بين الولايات المتحدة والدول العربية، ولكن هذا لم يمنع المطالبة بأن تتسم التطمينات بالمزيد من الوضوح والدقة .
تزامنت هذه المطالبات مع حدثين من شأنهما أن يضيفا المزيد من الأهمية عليها . الحدث الأول، هو سير ونتائج الانتخابات الفرعية الأمريكية . فمن هذه الناحية تبدو المطالبات العربية والخليجية بصورة خاصة واقعية من حيث التوقيت والمضمون . فالكثرة الغالبة من الجمهوريين الذين دخلوا الكونغرس تضم دعاة التشدد مع إيران . ومن المتوقع أن يثير هؤلاء مسألة التزامات واشنطن تجاه حلفائها في المنطقة العربية إذا لمسوا تراخياً من قبل إدارة أوباما على هذا الصعيد . أن التغييرات التي طرأت على الكونغرس تشكل حافزاً مستجداً يزيد من حرص إدارة أوباما على مراعاة مصالح واهتمامات الدول العربية الحليفة، ولكن هذه المراعاة لا تعني، بالضرورة، التجاوب مع حاجات هذه الدول وأخذ مشاغلها الأمنية في الاعتبار .
فضلاً عما سبق، فهناك فرق ملموس بين تقديم "التطمينات" وبين إعطاء "الضمانات" ففي أكثر الحالات تعبر التطمينات عن النوايا الطيبة التي تمتلكها دولة تجاه دولة أخرى، ولكن هذه التطمينات لا تصل إلى مستوى تقديم ضمانات حقيقية باحترام موجبات التضامن والتحالف . لذلك تتسم المطالبات العربية بالالتزام بموجبات التحالف بأنها نوع من الاستفادة من ظرف موضوعي بغرض رفع مستوى الضغط على إدارة أوباما كي لا تقدم تنازلات إلى الطرف الإيراني تمس مصالح الدول العربية المعنية .
الحدث الثاني تمثل في قمة آبيك التي انعقدت مؤخراً والتي حث خلالها الرئيس الصيني تشي جين بينغ شعوب المنطقة على التعجيل في بناء "منطقة التجارة الحرة لآسيا والمحيط الهادئ (فتاب) . ولقد سدد تشي بذلك رصاصة قد تكون قاتلة إلى مشروع "اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ" الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي أوباما . وكان أوباما قد أطلق "الشراكة" بقصد تعزيز دور الولايات المتحدة في دول المحيط الهادئ وعزل واحتواء الصين التي أبقيت خارج المشروع . بذلك دخلت بكين سباق التسلح الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وهو سباق سوف تكون له تداعياته المتنوعة خارج النطاق الاقتصادي البحت، وارتداداته السياسية والأمنية في كل مكان وخاصة في منطقة الخليج . هذه الارتدادات لا تعفي الولايات المتحدة من مسؤولياتها العسكرية في المنطقة العربية، ولكنها سوف تزيد من اهتمام واشنطن بسياسة "إعادة التوازن" وبتكثيف وجودها العسكري في حوض المحيط الهادئ . وهو أمر ستعتبره طهران حافزاً لها على تعزيز مساعيها للاضطلاع بدور "شرطي الخليج" .
بين الحدثين الأول والثاني يقتصر الدور العربي على الأحداث التي تظهر على شاشة العلاقات الدولية عموماً وعلى شاشة العلاقات الأمريكية -الإيرانية خاصة على ردود فعل محدودة الأثر . فهل جاء أوان مراجعة الحالة التي أوصلت الدول العربية إلى هذه الأوضاع؟ هل نملك العودة إلى أيام أظهر العرب فيها مقداراً معقولاً من التماسك فكان لهذا العامل أفضل الأثر في تحسين العلاقات مع الجيران وغير الجيران؟ هل لنا أن نذكر حرب تشرين الأول عام 1973 التي اتخذ العرب في إطار الأوابك وبالتشاور مع الجيران الإيرانيين القرار بإعلان المقاطعة النفطية فسار فيها الطرفان على هذا الطريق؟ هل نذكر المنافع الضخمة التي حققها العرب والإيرانيون ومعهم الدول المصدرة للنفط عندما تمكنت الدول العربية من ترتيب أوضاع البيت العربي ولو لفترة قصيرة؟
إن التذكير بتلك الأيام مهم جداً خاصة إذا ما قارناها بما يجري اليوم . فلقد تمكن العرب عندها ولو لفترة محدودة، وبالاستناد إلى الرابطة التي تجمعهم، من تجميع قواهم ومن التحرك المشترك، فحققوا نتائج بالغة الأهمية لهم وللإيرانيين معاً . بالمقارنة يسعى الإيرانيون اليوم إلى تعزيز مكانتهم الدولية والإقليمية، وإنما على حساب العرب، أي عبر تشكيل محور داخل الجسم العربي، وإلى مخاطبة الأمريكيين ومفاوضتهم برسمهم وبإسم هذا المحور . ومن الأرجح ألا يكون حظ الإيرانيين في النجاح كبيراً . ومن الأرجح ألا يكون للعرب في هذه المفاوضات أي نصيب . حسبنا أن نفيد من دروس التاريخ حيث نجد أن الدول العربية كانت تتراجع كمجموعة وكدول عندما تفرقت وتصارعت، وأنها تقدمت عندما كانت تتعاون . وحسب الجيران أيضاً أن يتذكروا أن التعاون لم يفد العرب وحدهم فحسب، بل أفاد أيضاً الدول الصديقة والجارة.