اطلس- حتفظ الشاب بلال استيتي من مدينة جنين شمال الضفة الغربية بسلسلة أوراق رسمية صادرة عن وزارة الصحة حول نسبة العجز التي يعاني منها في قدمه اليمنى وتداعيات صحية أخرى ولكن الغريب في تلك الأوراق أنها تحمل نسب عجز مختلفة بالرغم من صدورها من نفس اللجنة.
ويتعجب استيتي من ذلك قائلا: "أنا هو أنا في الحالات الثلاث فلماذا آخذ نسب عجز مختلفة، فالتقارير الطبية هي ذات التقارير، والأصل أن تكون النسب موحدة ومعايير التقييم واضحة وشفافة".
ويستعرض استيتي حكايته التي بدأت بخروجه من سجون الاحتلال في 16-12-2009 مصابًا بعجز في قدمه اليسرى، حيث تقدم بطلب انتساب للاتحاد العام الفلسطيني للأشخاص ذوي الإعاقة فكان لا بد من عرضه على اللجنة الطبية في جنين من أجل تحديد نسبة العجز.
ويوجد نوعان من اللجان الطبية؛ وهي اللجان الفرعية في المحافظات ويتوجه إليها المواطن كل في محافظته، واللجنة الطبية العليا في رام الله والتي تعد مرجعية اللجان ويمكن للمواطن التوجه إليها في حال شعر بأن اللجنة الفرعية لم تنصفه، كما يناط بالعليا النظر في الملفات ذات الطابع الهام المرتبطة بالمصير الوظيفي لشخص على سبيل المثال.
وتوجه استيتي إلى اللجنة الفرعية في جنين وبعد إتمام إجراءات الفحص منحته إقرارًا بوجود عجز دائم له بنسبة 60% وتم اعتماد النسبة لدى اللجنة والاتحاد العام.
وبعد أيام من حصول استيتي على تلك النسبة سعى للاستفادة من البرامج التي تطرحها وزارة الأسرى للمحررين والجرحى والتي تنص حسب القانون على أن من اعتقل لثلاث سنوات ولديه نسبة عجز دائمة 50% فما فوق يحق له الحصول على مخصص دائم.
ولما كان استيتي قد اعتقل لأربعة أعوام ونصف ولديه نسبة عجز من اللجنة الطبية حددت ب60% فقد انطبقت عليه الشروط، ولكن وزارة الأسرى طلبت منه ورقة من ذات اللجنة الطبية تحدد نسبة العجز بحيث يكون الكتاب معنونًا بأنه موجه لوزارة الأسرى.
توجه استيتي إلى اللجنة الطبية وطلب تحديد نسبة العجز لصالح وزارة الأسرى، فحدد له ذات الأطباء وذات اللجنة وبذات التقارير وبعد أسبوع من التقرير الأول نسبة عجز جديدة هي 50% مؤقت لمدة سنتين، وهذا يعني أنه لن يستفيد من مخصصات وزارة الأسرى لأنها مؤقتة.
وبعد أيام قليلة، عاد استيتي إلى اللجنة الطبية ذاتها من أجل الحصول على كتاب يحدد نسبة عجز موجهة هذه المرة لوزارة الشئون الاجتماعية، حيث كان يجهد عقب خروجه من السجن في التسجيل لدى مختلف الجهات التي ترتبط بقضايا الإعاقة ويمكن أن تسهم في إعانته على أمور الحياة أو مساعدته في العلاج.
لماذا التضارب؟
قرر استيتي في هذه المرحلة التوجه للجنة الطبية العليا في رام الله ولكنه – حسب تعبيره- لم يجد وضعًا أفضل، فمستوى الشفافية في نشر المعلومات والمعايير "متدن" من خلال رفض إعطائه المعلومات، وكذلك عدم وجود فحص طبي، والاكتفاء بالنظر إلى تقارير والشكل الخارجي للمواطن.
ويشير إلى أن كل الفترة التي قابلته فيها اللجنة الطبية العليا كانت "دقيقة واحدة" حسب قوله، وحين طلب منهم خلال تلك الدقيقة أن يكشف عن ساقه أخبروه لا داعي وانتهت المقابلة.
ويستطرد استيتي "بعد ذلك لم يتم منحي أية معلومات حول نسبة العجز وقالوا لي نحن نوجهها لوزارة الشئون مباشرة"، لافتًا إلى أنه عرف بطرق غير رسمية أن النسبة الموضوعة هي 35% وهي نسبة لا تؤهله للحصول على إعفاء جمري، ويتساءل لماذا التعتيم؟.
وهنا قرر استيتي أن يفهم لماذا توضع النسب المختلفة في ذات الفترة الزمنية وبذات الأوراق الطبية وبذات الأسباب فسأل هنا وهناك إلى أن تم إبلاغه بشكل واضح وصريح على حد قوله: "نسب العجز تمنح حسب الجهة المقدمة أكثر مما هي تمنح حسب طبيعة العجز من الناحية الطبية بالرغم من أن المنطق والعدالة تقتضي أن تمنح النسبة حسب الحالة الطبية بغض النظر عن الجهة التي ستقدم إليها".
استيتي الذي حصل بعد عامين من ذلك وفي نهاية المطاف على مبتغاه حيث أقرت اللجنة الطبية الفرعية في جنين نسبة عجز 50 % دائم له يؤكد أن تجربته يجب أن تفتح ملف اللجان الطبية وطريقة عملها بحيث يصبح مرتبط بمعايير واضحة وقوانين عمل عصرية.
ولكن كيف حصل استيتي على نسبة عجز منصفة، يقول: "في نهاية المطاف أصررت أمام اللجنة على تحويلي إلى أطباء مختصين ترتئيهم اللجنة وبناءً على تقاريرهم توضع النسبة وهذا ما حدث؟ والسؤال لماذا لم يحدث ذلك من الأساس؟".
اتهامات بالواسطة والمحسوبية
ويقول المواطن ( م. أ) والذي لم يحبذ نشر اسمه ونحتفظ ببياناته كاملة، إلى أنه حين لم يحصل على نسبة عجز جيدة في المرة الأولى واحتج على ذلك تدخل لصالحه أحد الشخصيات النافذة فقال له مسئول في الصحة: "لماذا لم تقل منذ البداية أنك تعرف فلان".
وهو ما يؤكده استيتي أيضًا الذي يوضح أنه يعرف عديد أشخاص حصلوا على نسب عجز مرتفعة من أجل الحصول على إعفاءات جمركية ورواتب لأن لهم "واسطات ومحسوبيات وحصلوا على أكثر من 70% وحالتهم لا تستحق ذلك"، مضيفًا "قال لي أحد المسئولين في إطار احتجاجاتي المتواصلة زبط أمورك".
ويؤكد رئيس الاتحاد العام الفلسطيني للأشخاص ذوي الإعاقة رفيق أبو سيفين وهو على تماس مباشر مع عمل اللجان الطبية في مختلف المحافظات أن اللجان الطبية وتحديدًا اللجنة الطبية العليا "تعاني من فوضى عارمة".
ويضيف "يوجد خلل في التواصل بين وزارة الصحة والمديريات وبين المركز والأفرع وعدم التوافق بين مديريات الصحة والمستشفيات ينتج عنه إجحاف بحق المواطنين المتقدمين".
ويشير أبو سيفين من سياق تجربته الطويلة في هذا المجال إلى أنه يسمي ما يجري بأنه "فوضى منظمة" تكون في بعض الأحيان مقصودة من أجل حرمان بعض المتقدمين لتقليل عدد المستفيدين سيما حين يتعلق الأمر بالتزامات مالية على الحكومة.
ويلمز أبو سيفين إلى جانب القوانين الناظمة قائلا: إن "القوانين الناظمة لعمل اللجان الطبية قديمة ورديئة ولا تصلح للزمان الذي نعيش فيه، الكل يتطور وعيب على فلسطين أن تبقى في هذه الدائرة المتحجرة من القوانين".
مثالب تحتاج المراجعة
ويؤكد منسق وحدة رصد وتوثيق الانتهاكات لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عبد الحكيم شيباني والذي تابع ملفات عديدة في هذا الإطار وجود إشكالات جوهرية في عمل اللجان الطبية تمس بشكل مباشر مبدأ العدالة.
ويستعرض شيباني تلك المثالب وأهمها "خلل في الإطار القانوني يتمثل في اعتماد اللجان الطبية في عملها على القانون العسكري الإسرائيلي لعام 1969، والذي وضعت لوائح له من قبل مجلس الوزراء عام 2004، مما يعني الحاجة لقانون عصري وعدم وجود قانون عصري يتسبب في إيقاع الظلم ويتسبب بالتضارب".
ولفت كذلك إلى وجوب الاعتماد على ذوي الاختصاص من الأطباء في تحديد نسب العجز كل في تخصصه وهذا ما لا يحدث سيما في اللجان الفرعية ويتم الاعتماد حاليًا على رأي أعضاء اللجان من غير ذوي الاختصاص ودون الاستناد إلى فحوصات بقدر ما هو مراجعة لتقارير يقدمها المواطن.
ويؤكد شيباني تلقى وحدة رصد وتوثيق الانتهاكات لشكاوى عديدة حول اختلاف نسب العجز لذات الشخص وهو موضوع يتطلب معالجته النظر في منهجية عمل اللجان الطبية.
ونوه إلى أن أكثر الملاحظات إثارة للجدل في عمل اللجان الطبية هي اختلاف نسب العجز باختلاف الجهة أو الوزارة الموجه إليها كتاب العجز، ومن خلال متابعاتنا اتضح لنا أن هناك أوامر وقرارات غير مكتوبة للجان الطبية من قبل الجهات العليا بأن تتشدد في منح نسب العجز التي يترتب عليها التزامات مالية من قبل الحكومة.
واستطرد شيباني قائلا: "هذا مثبت لدينا ولا يتم إنكاره عند الحديث مع جهات الاختصاص بشكل غير رسمي، والعدل يقتضي أن التشخيص يجب أن يكون طبي بحت بغض النظر عن الجهة التي سيوجه لها الكتاب حتى لا يظلم إنسان".
متابعة حقوقية ضعيفة
ويرى رئيس الهيئة الوطنية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة المحامي صلاح موسى أن جزءًا من المشكلة يتمثل في عدم وجود معايير موحدة للعمل عليها لدى اللجان الطبية، وهذا يولد أحيانًا "مزاجية تحكم عمل اللجان وهي نتيجة طبيعية لغياب المعايير".
ويؤكد أن قدم القانون والخلل في الإجراءات والتي جزء منها أوامر عسكرية إسرائيلية وأخرى من أنظمة أردنية قديمة وغير ذلك من الملاحظات يعزز دائرة الخلل من خلال زيادة مساحة اعتماد الأطباء على التقديرات الذاتية أكثر من اعتمادهم على معايير دقيقة تضيق دائرة الاجتهاد الشخصي.
وحول متابعات مؤسسات حقوق الإنسان للقضية يشير الباحث الحقوقي في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان محمد كمنجي إلى أن الهيئة المستقلة تلقت شكاوى من مواطنين تتضمن حصولهم على نسب عجز مختلفة دون معايير.
ولكن كمنجي يشير إلى أن الهيئة لم تعمل على متابعات مكتملة لهذه القضية لأن عدد الشكاوى التي تلقتها قليلة، والهيئة لا تتحرك إلا في حال تحولت الشكاوى لظاهرة عبر تلقي عدد كبير من الشكاوى لذات الموضوع.
ونوه إلى وجود مشكلة أخرى تتمثل في أن الردود على مراسلات الهيئة من قبل وزارة الصحة تتأخر مقارنة بالوزارات الحكومية الأخرى، وغالبًا ما تكون ردود عامة.
الصحة تنفي
وينفي مدير عام الرعاية الصحية في وزارة الصحة ورئيس اللجنة الطبية العليا د. أسعد الرملاوي، وهي الجهة ذات المرجعية على عمل اللجان، وجود خلل جوهري في عمل اللجان، معتبرًا أنها "اجتهادات طبية تمليها الحالة وفق معايير وأسس".
ويستطرد الرملاوي "تقدير العجز قد يختلف باختلاف ظروف الحالة، فمثلا إذا كان المتقدم يعاني من مرض نفسي، فإن النسبة المقرة له تختلف في حال كان أستاذ مدرسة عنه إذا كان حارس بناية، فالمرض النفسي للمعلم يعني أنه لا يصلح لأن يكون مربي أجيال، بينما لا نتشدد حين يتعلق بحارس بناية على سبيل المثال".
ويضيف مثالا آخر وهو تقدير نسبة العجز للأسرى المحررين، مشيرًا إلى أن "الوزارة تزيد نسبة العجز للمحررين استنادًا إلى أن من قضى سنوات في سجون الاحتلال فإن هناك آثارًا نفسية كثيرة غير مرئية يعاني منها، وإذا تعاملنا معه بحرفية النصوص حول العجز المباشر لأحد أطرافه على سبيل المثال فسيظلم ولن يحصل على نسبة تنصفه".
ونفى الرملاوي صحة الاتهامات التي تشير إلى وجود تعليمات عليا بالتشدد في منح نسب العجز حين يتعلق الأمر بالحصول على رواتب من الحكومة، مشيرًا إلى أن "اللجنة سيدة نفسها ولا يتدخل في عملها أحد، بل إن اللجان تتساهل لاعتبارات عديدة كما في حالة الأسرى المحررين".
وحول اختلاف نسب العجز لذات الشخص لدى اللجان الطبية الفرعية في المحافظات، وعدم وجود أطباء أخصائيين في اللجان الفرعية، أكد الرملاوي أن الاختلاف "يعود للاجتهادات الطبية وليس لأمزجة شخصية".
وأضاف أن "من يشعر بإجحاف لدى اللجنة الفرعية عادة ما يتوجه للجنة الطبية العليا، واللجنة العليا مكونة من 11 طببيا مختصا من مختلف المحافظات والتخصصات ولا يمكن أن تجتمع على خطأ أو تحيز مقصود".
وأشاد بنزاهة الأطباء، مشيرا إلى أن الطبيب قد أقسم مرتين، الأول قسم المهنة والثاني طلبه للقسم من قبل المحاكم في حال كانت قضية ينظر فيها أمام وبها نسبة عجز من اللجنة.
ونوه إلى أن اللجان الطبية تعتمد في تقدير الحالة الصحية ونسب العجز على تقارير طبية صادرة عن أخصائيين من مستشفيات حكومية، باستثناء العيون التي نعتمد فيها على تقارير من مستشفيات خاصة معتبرة مثل "سانت جون" في القدس.
ويقر الرملاوي بوجود إشكالية في القوانين الناظمة لعمل اللجان الطبية وهي بحاجة للتطوير، مشيرًا إلى أن جهدًا يبذل حول ذلك وأن اللجنة في فلسطين تلقت تدريبًا على نظام حديث أقرته منظمة الصحة العالمية، ولكن تبين أن تطبيقه صعب جدًا ومعقد لأن تطبيقه يرتبط بنظام يرتبط بجهات عديدة.
وأردف "لكن نحن نبحث عن الأفضل، ونستأنس بقوانين عدد من الدول العربية، ويمكن القول أن العمل جار على تحديث المنظومة القانونية".
وعن الجهة المنوط بها الرقابة على عمل اللجان الطبية، قال الرملاوي: إن "اللجنة الطبية العليا التي يمثلها هي سيدة نفسها وهي مسئولة عن اللجان الفرعية في المحافظات ، وإذا رأى أي مواطن أن إجحافا وقع بحقه، فيمكنه التوجه للقضاء".
حلول تتطلب الشراكة
واستعرض منسق الهيئة المستقلة محمد كمنجي جملة حلول حول هذا الملف وهي تبدأ بإقرار قوانين عصرية، وزيادة مساحة الشفافية في المعلومات، ووضع معايير واضحة في التقييم، وأن ترتبط نسب العجز بالمرض وليس بالجهة المقدم إليها الطلب، وأن تتشكل اللجان الطبية الفرعية في المحافظات من أطباء ذوي اختصاص، وأن تشكل جهة رقابية في الوزارة لمراقبة قرارات اللجان ومراجعتها.
بدوره، يرى المحامي صلاح موسى أن الحل يكمن في التأسيس للحوار بين أطراف العلاقة، فاللجان الطبية ووزارة الصحة يجب أن يكون لديها انفتاح في حرية الوصول للمعلومات.
وطالب بأن يبادر أحد الأطراف لعقد جلسات استماع بين المسئولين عن هذا الملف والمؤسسات العاملة في مجال الإعاقة والأطراف المرتبطة بالقضية والاستماع لملاحظات كل الأطراف.
كما شدد على أهمية تحديث القوانين على اعتبار أن البناء القانوني السليم أساس حل المشكلة في هذه القضية وغيرها بما يضيق دائرة الاجتهادات الخاصة.