اطلس:أسالت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الصين الكثير من الحبر، بعد أشهر من الجفاء والبرود الذي ساد العلاقات الصينية ودول أوروبا، الذي تسببت فيه الحرب الروسية الأوكرانية بالدرجة الأولى واستغلته أمريكا بشكل كبير في تعميق وتقويض النفوذ الصيني
وكانت غاية الزيارة المعلن عنها والتي تمحورت بشكل أساسي حول الأزمة الأوكرانية وفق قناعة فرنسية بقدرة الصين على إحداث تأثير على روسيا للجلوس على طاولة السلام في خضم أجواء محلية وعالمية غير مستقرة، إذ تشهد فرنسا إضرابات واضطرابات نتيجة لإصلاحات نظام التقاعد الذى لم يحظَ بتأييد شعبي، وعلى المستوى الدولي، إعلان موسكو إرسال 10 مقاتلات إلى “بيلاروسيا” تستطيع حمل أسلحة نووية تكتيكية؛ ردًا على قرار بريطاني بتزويد أوكرانيا بقذائف خارقة للدروع تحتوى على اليورانيوم المخصب، بالإضافة إلى تراجع مخزون الأسلحة في دول بأوروبا، نتيجة إرسال أسلحة على نحو غير مسبوق الى أوكرانيا.
ومع زخم الزيارة لم تبتعد أنظار أوروبا وأمريكا عن مجريات ما دار في بكين، ما يفسر مرافقة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لماكرون في رحلته لموازنة الثقل الصيني بثقل الاتحاد الأوروبي، بل واتصل أيضاً بالرئيس الأمريكي جو بايدن، حتى لا يثير حفيظة واشنطن، التي تسعى لخنق بكين لا الانفتاح عليها.
ورغم أن الزيارة كانت تهدف إلى مناقشة العديد من الملفات على رأسها الحرب الأوكرانية لكنها لم تحدث أي جديد، فالصين لم تقدم رداً واضحاً بهذا الخصوص ولم تعط أي ضمانات لماكرون، ما يعني أن ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية غادرا الصين خاليي الوفاض، غير أن الصين بالمقابل استغلت الزيارة لتصدير صورة الصين كمرجع دولي في حل الأزمات، حتى من ألد أعدائها.
في الجهة المقابلة بدا ظاهراً أن الغاية الأساسية لزيارة مكارون للصين كانت اقتصادية بشكل كبير، بعد أن تسببت الحرب الروسية الأوكرانية بأزمة عميقة تمثلت في ارتفاع معدلات التضخم وفواتير الطاقة، وبالتالي سعت فرنسا لتنشيط اقتصادها، فماكرون يرى أن الصين أقرب له، خاصة وأنها خارج أي عقوبات غربية، وهو ما ترجم خلال الزيارة بتوقيع أكثر من عشرين اتفاقية تجارية مع العملاق الصيني، تخللتها تعهدات فرنسية بمنح معاملة عادلة للطلبات الصينية للحصول على تراخيص الجيل الخامس.
يأتي ذلك في وقت تعيش فيه فرنسا أزمات داخلية وخارجية لم تكن في حسابات الرئيس الفرنسي خلال عهدته الثانية ، فعلى الجانب الآخر من القارة السمراء تجري حرب صامتة بين فرنسا ومستعمراتها القديمة ، ما يفسر أن فرنسا في مسار مستقيم لفقدان وزنها وسيطرتها على القارّة السمراء، حيث سحبت فرنسا آخر جنودها من مالي بعد تسع سنوات من الوجود العسكري في هذا البلد الأفريقي، بعد أن خسرت حربها العسكرية على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وفي الوقت نفسه، أخذت تفقد دعم دول المنطقة بالنظر لسياسة الاستغلال التي تنتهجها، فحتى اليوم لا تزال تتعامل باريس مع البلدان الأفريقية كمستعمرات تؤمن لها المواد الأولية واليد العاملة، مقابل الحماية والمساعدات الاقتصادية . وأظهرت جولة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الأخيرة، مدى تقلص نفوذ بلاده في القارّة السمراء، عندما اختصر جولته في ثلاث دول صغيرة وفقيرة، هي بنين والكاميرون وغينيا بيساو.
ما تعيشه فرنسا بقيادة ماكرون اليوم في أفريقيا يعتبر أسوأ بكثير مما عاشته من قبل، فهي تخسر علاقاتها بمستعمراتها بشكل دراماتيكي يمكن أن يفقدها الأرض التي وقفت عليها لسنوات طويلة ، فالميزان التجاري هبط تدريجياً إلى النصف خلال نحو عقدين من الزمن وليس اقتصاديا فقط فحتى علاقاتها بدول افريقيا تجاوزت الحدود التي لطالما تقيدت بها وتدهورت بشكل كبير وصلت لحد طرد السفير الفرنسي من مالي، وخروج متظاهرين في بوركينا فاسو يرفعون شعاراتٍ تتهم فرنسا برعاية الإرهاب وقيادة الانقلابات في أفريقيا؟! لتعي بعدها فرنسا بضرورة تغيير السياسة التي تنتهجها وتتجه نحو الانفتاح أكثر على دول أكثر نفوذا وهو ما عبّر عنه مقال افتتاحي نشرته صحيفة لوموند بداية شهر أغسطس/ الماضي، نصحت من خلاله الصحيفة ذات النفوذ الكبير في توجيه السياسة الخارجية الفرنسية والخروج من قوقعة دول إفريقيا.
رغم محاولاتها اليوم للحفاظ على نفودها داخل إفريقيا لكن ذلك يبدو مستحيلا مع تفتح هذه الأخيرة على الصين وروسيا وادراكها أنها تتعامل مع قوة تعمل باستمرار على ترسيخ الفكر الاستعماري، من جهة اخرى وجدت هذه الدول في النفوذ الروسي والصيني ملاذاً آمناً ما عوّضها عن أمرين مهمين: الحماية الأمنية والتمويل، الذي فتح الطريق أمام النفوذ الصيني الذي دخل على خط التنافس في القارة السمراء، وتمدد بسبب سياسة القروض والمشاريع الاقتصادية، التي أصبحت كلفتها تتجاوز ربع الناتج الخام المحلي لبلدان أفريقيا، في وقت خسرت فيه فرنسا الذي كانت قبل عام 2000 المصدر والمستورد الأول بالنسبة لأفريقيا (حوالي 50 في المائة بالاتجاهين)، ومن هنا يمكن القول بأن سنوات قليلة فقط تفصلنا على اندثار ما تبقى من النفود الفرنسي من إفريقيا ليحل محله المد الصيني والروسي على حد سواء.