اطلس: كتب: عصام غالب عواد : منذ بداية ما أُطلق عليه في حينها بـ “الربيع العربي" كانت هناك وفرة من التحليلات المتعلقة بتأثير هذه الحراكات التي أشعلت موجة من الاضطرابات غير المسبوقة اتخذ فيها المواطنون موقفا ضد الأنظمة ذات التاريخ الطويل
من الاستبداد واستقرار الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. ولكن رغم كل هذه التحليلات إلا أن هناك سؤالا حاسما ظل يراود المحللين، وهو: لماذا لم تنجح الحكومات ما بعد 2011 - الانتقالية والمنتخبة - في تحقيق توقعات شعوبها التل خاضت هذه التجربة؟
إن هناك الكثير من الأدلة التي تؤكد أن الإجابات على السؤال المذكور أعلاه ستختلف، بشكل جذري في كثير من الأحيان، من بلد إلى آخر، وبالتالي فإن إجابات بـ “مقاس واحد يناسب الجميع" لن تروي الظمأ ولن تكون مفيدة. أياً يكن من أمر فإنه من الضروري التفكير في ثلاثة عوامل رئيسية شاملة لعدة قطاعات أثرت في نتائج هذه الحراكات.
لقد أكد منظرو السياسة والاقتصاد باستمرار على أهمية الجوانب الفنية في أي عملية انتقال سياسي. وقد ظل التركيز إلى حد كبير في مناظراتهم على جوانب مثل الانتخابات، وبناء قدرات الهيئات التشريعية، وتعزيز المجتمع المدني أو إصلاح قطاع الأمن، إلا أن جزءا كبيرا منهم أغفل، من بين أمور أخرى، النسيج الاجتماعي الضعيف لدرجة أن التقدم في الجوانب الفنية المذكورة أدى في الواقع إلى انقسام كامل في هذه المجتمعات. وعلى الرغم من أهمية وضرورة الانتخابات والأمور الفنية الأخرى لتحقيق انتقال سياسي ناجح. إلا أنه وفي ظل غياب عقد اجتماعي جديد ومكرس بين الدولة والشعب قادر على منح الشرعية الكافية لهياكل الحكم الناشئة، فإن هذه الإجراءات الفنية تُبنى على أساس هش. وفي حين أن هذه الهياكل ضرورية، فإن الافتقار إلى الإيمان يجعلها عديمة الفائدة تقريبا. ومن هنا، فإنه من شأن عقد اجتماعي جديد أن يوجه التبادلات بين الفرد والدولة وتوقعاتهما، ينقل فيها الفرد سلطته إلى ممثله مقابل ضمان حماية حقوقه، وهذا ما يتطلب من أجل نجاح هذه العلاقة ثقة وشرعية تعاني الدول العربية من عجز مذل في كليهما. إذن، فإن معظم البلدان التي شهدت هذه الحراكات قد دُمّرت بفعل الصراعات العنيفة التي طال أمدها، بينما يمر الباقون بنوع مختلف من الأزمات الوجودية - إما سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية بطبيعتها.
ليس من الغريب القول بأن نتائج هذه الحراكات كانت تسير بعكس المنشود إلى حد كبير كون الأسباب الجذرية لمعظم المظالم التي غذت هذه الحراكات لم يتم معالجتها. فقد كانت القضايا المستوطنة في هذه المجتمعات كالفساد وعدم المساواة وانتهاكات حقوق الإنسان وعدم القدرة على الإدارة واستيعاب مختلف فئات المجتمع ثابتة من قبل ومن بعد ولم يتم تغيير هذا الواقع بتغيير الأنظمة. لذلك، وعلى الرغم من التحولات السياسية، فقد خلقت هذه العوامل الأساسية فجوة واسعة ومخيبة للآمال بين توقعات الناس للازدهار وإمكانية تحقيقه الفعلي. بعد فوات الأوان، فإن الارتباط بين الديمقراطية والازدهار كان خاطئا أو مبالغا فيه. ولعله قد آن أوان الاعتراف بأن معظم القوى الدافعة وراء هذه الحراكات كانت ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية - أكثر منها صرخات حرية وحقوق السياسية - مما جعل تدهور تقديم الخدمات العامة والصعوبات الاقتصادية أكثر إحباطا. كما إن أولئك الذين يشغلون مناصب منتخبة أو انتقالية (سواء في مجتمعات الحراكات أو في المجتمعات العربية عموما) غير قادرين على الإجابة على الأسئلة الملحة حول الوعود التي لم يتم الوفاء بها، وبدلا من ذلك، يلجأ معظمهم للخطاب السياسي الفارغ وإجراءات التخفيف التجميلية لكسب الوقت. وفي صورة أكبر، فإنه في أفضل حالات النخب العربية الحاكمة، وعند مواجهة استياء شعبي عام، دائما ما تلقي الطبقة الحاكمة وداعموهم بين الجمهور أو حتى الدوليين باللوم على الآخرين، فيتهم العلمانيون الإسلاميين والعكس صحيح - وكلاهما يواصل إلقاء اللوم على الأنظمة السابقة أو القوى الإقليمية والدولية.
عودٌ على ذي بدء، وبالرجوع للحراكات الشعبية، فقد أفسح الإحباط المتولد بين جماهير هذه الحراكات الطريق ببطء إلى الحنين المتصاعد إلى حقبة ما قبل هذه الحراكات، وأصبحت الشخصيات السياسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالأنظمة المخلوعة تستحق السلطة الآن فجأة، وفي كثير من الحالات، ذهب بعض الناس إلى حد الدعوة العلنية إلى قيام النظام الذي أطيح به سابقا من تحت الرماد، وبالنسبة للبعض فإن حقيقة النظام المخلوع أو المترنح لا تبدو قاتمة كالصراع الدموي غير المنتهي في سوريا على سبيل المثال. لقد استخف لعديد من المواطنين بالمسئولية الشخصية والتضحية اللازمة لتحقيق تحول سياسي واجتماعي واقتصادي ناجح. وفشل غالبية الناس في فهم أن المستقبل الأفضل لا يتعلق فقط بإسقاط الشرير أو اجتذاب الدعم الدولي – بل بإخراج مستقبل أفضل من الداخل أيضا. ففي التحول السياسي، وخاصةً الذي كان داميا وصعبا، يميل جزء كبير من التركيز على الإصلاح السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، فإنه من المهم القيام بعمل على المستوى الأعمق للقيم الاجتماعية لعلاج الأمراض السامة للتكتيكات السياسية الإقصائية التي تؤدي إلى العنف الدوري. ولقد تبين بشكل جلي أن جزءا لا بأس به من ضحايا الأنظمة القمعية ومجموعات الأقليات وحركات الاحتجاج قد اعتنقوا نفس الممارسات السياسية والاجتماعية التي اشتكوا منها، بما في ذلك العنف السياسي في بعض الحالات. وكحال بقية المجتمعات العربية فإن نفس المواطن الذي يشكو من ممارسات فاسدة في مكان ما سيقبل منحه امتيازات - عينية أو نقدية - في ممارسته الخاصة.
إن المستقبل الأكثر سلاما يتطلب أن يلتزم المواطن، على المستوى الفردي، بنفس المبادئ والممارسات التي ينادي بها وأن يرفض الاعتقاد السائد، ولكن قصير النظر، في المنطقة بأنه من المقبول السعي وراء المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية من خلال وسائل غير تقليدية. - بما في ذلك الأجندات الإقصائية والعنيفة في بعض الأحيان. ومن هنا فإن جوهر الفشل الجوهري لهذه الحراكات يتمثل في أنه على الرغم من وجود بعض التحولات السياسية الفنية، إلا أن أياً منها لم يكن مصحوباً بعقود اجتماعية أعيد تصورها بين الدول والمواطنين، مما أدى إلى أزمة شرعية للحكومات الجديدة. وقد ترك هذا مجتمعات بأكملها اليوم تعاني من ضعف التماسك الاجتماعي، وتدهور الظروف المعيشية، وتفاقم عدم الاستقرار السياسي، والمزيد من الفوضى العامة أكثر مما كانت عليه في السابق.
في هذا السياق من الهشاشة، يجب إعادة صياغة العقد الاجتماعي في المجتمعات العربية بطريقة يضفي بها الشرعية على سلطة الدول والكيانات العربية بما يخدم المصلحة الجماعية ويضمن الرفاهية العامة. كما وأنه وعلى الرغم من سوداوية المشهد الاجتماعي العربي إلا أنه لا يزال هناك مستوى معين من التأييد لقوة التعبئة الجماهيرية، حيث إنه لم يكن يُنظر في الماضي إلى فكرة تحدي من هم في السلطة كخيار يمكن أن يولد أي نتيجة إيجابية. إلا أنه وبمرور الوقت تبين أن هذه المجتمعات تواجه تحديا هائلا، ولكنه ممكن، وهو: بناء أسس الحكم الشرعي.