اطلس:من نقطة عالية بارتفاع 220 مترًا في جبل المقطم جنوب شرق القاهرة، شاهدتُ أوائل كانون ثاني (يناير) الماضي غابة من الأبراج السكنية والمباني العمرانية
تمتد في سهل واسع شرقي النيل؛ ذلك أن الهضبة تتفاوت في ارتفاعها بين تلال عالية ومتوسطة ومنخفضة بمساحة اجمالية قدرها 14 كيلومترًا مربعًا، تطل من الجنوب الشرقي على العاصمة النهرية المنبسطة، وتوفر للناظر فرصة تأمل قلعة صلاح الدين، سجن القلعة القديم، ومسجد محمد علي، وأبراج المقطم وأحياء مكتظة بالعمارات الضخمة في أجزاء محدودة من عاصمة عريقة واسعة مترامية الأطراف.
عقب جولة خاطفة في أحياء المقطم برفقة الصديق المعماري محمد عزازي، هبطتُ مساء من مطعم سياحي على نقطة مرتفعة في الجبل نحو أطراف حي الزبالين (70 ألف مهمش). للأسف لم نتمكن من التجول في شوارع الحي "السياحي" الشهير، وفشلنا في زيارة دير الأنبا سمعان الخراز الملاصق للحي؛ بسبب تأخرنا في الوصول إلى المكان قبيل حلول الليل. للأسف أيضًا بدد الوقت المتأخر فرصة سانحة لوقوع المشهد تحت الحواس، وذهبت الفرصة المتاحة أدراج الرياح!
توقف المعماري عزازي، وأشار من بعيد إلى الكنيسة باعتبارها تحفة معمارية أقيمت داخل مغارة عثر عليها سنة 1974 في سفوح جبل المقطم، ووظفها أحد المعماريين المصريين ببراعة لبناء كنيسة واسعة في قلبها؛ بمساعدة أبناء الحي الجديد الذين تمكنوا من نقل نحو ثلاثة ملايين حجر لبناء كنيسة جديدة لمجموعة من العائلات "المزعجة" المطرودة من بيوتها!
قدمتْ كوكب الشرق مطربة الغناء العربي (أم كلثوم) شكوى سنة 1969 إلى محافظ القاهرة سعد زايد؛ أبدتْ فيها الانزعاج من تلال القمامة في حي (إمبابه) على الطرف الآخر لنهر النيل، ومقابل الفيلا التي تسكنها في حي الزمالك، واعترضتْ على عربات (الكارو) التي تجرها الحمير طوال النهار. استجاب المحافظ للشكوى، وقرر نقل 5 آلاف عائلة كانت قد طردت قبل ذلك من شبرا إلى حي المطرية، وانتقلتْ العائلات المطرودة للإقامة في عشش من الصفيح بأطراف سفح نائي في المقطم الصحراوي، وظلتْ تهتم بتربية الخنازير، واشتغلت في تجميع القمامة وفرزها وإعادة تدويرها وبيعها، فيما انتشر مطلع السبعينات الإدمان على المخدرات والكحول والقمار، بين بعض شباب (حي الزبالين).
توجه أحد سكان الحي إلى قسيس حي شبرا الأب سمعان إبراهيم للمساعدة في هداية بعض الشبان الذين ضلوا الطريق، وابتعدوا عن الإيمان والقيم القبطية الروحية، فتوجه القسيس إلى البابا شنودة، ونال مبلغًا من المال بغرض بناء كنيسة تسهم في تعزيز الإيمان، وإعادة بناء القيم الروحية.
شارك أبناء الحي بطوعية في نقل أطنان من حجارة جبل المقطم للمباشرة في بناء الدير أواسط السبعينات، وللأسف تعرض الجبل إلى انهيار مفاجئ أدى إلى مقتل وجرح المئات من السكان، ومع ذلك واصل الشباب عملهم الطوعي، وأطلق الشاعر الشعبي أحمد فؤاد نجم على أهالي حي الزبالين (ملح الأرض) وناشدهم في قصيدة غابة:
احنا يا ملح الغابة
هَمْ يحرك هَمْ
ضايعين وسط ديابه
مش فاضيين نهتم
فاهمين وبنتغابا
مش راضيين نتلم
تمكن أبناء (ملح الغابة) من بناء دير كبير يحتوي على كاتدرائية السيدة العذراء، كنيسة القديس سمعان الخراز، كنيسة الأنبا ابرام السرياني، كنيسة مار مرقس، كنيسة الأنبا بولا السواح، وقاعة تتسع لأكثر من ألفي زائر باسم القديس الخراز.
شكل (المقطم) خلال الفتح الإسلامي حاجزًا طبيعيًا لصد أخطار تستهدف (الفسطاط) من الجهة الشرقية، ولذلك أقيم فيه مجموعة من النقاط الارتكازية العسكرية، فيما بنى الناصر صلاح الدين فوق صخوره قلعته الشهيرة، في حين لم تنجح خطط الحكومات المصرية منذ وقت طويل على تطوير منشئات في الجبل؛ حتى وقع زلزال القاهرة أواسط تشرين أول (أكتوبر) 1992؛ فاضطرت الحكومة إلى بناء مساكن كثيرة للمتضررين وأقام في أحدها الشاعر الشعبي أحمد نجم، وبدأت عملية شق الطرق وتزايد رقعة المساكن بالتدريج، وشيدت مدينة المقطم، وانتقل إلى بيوتها مجموعة من الشخصيات المجتمعية بغرض إقامة هادئة في الجبل بعيدًا عن الضوضاء وأزمات السير في أحياء العاصمة.
الشركات الربحية العقارية لم تهدر الوقت، والتقطتْ سريعًا نتائج الزلزال! نجحتْ شركة (إعمار) الإماراتية منذ سنوات في بناء عقاراتها، بمواجهة حي الزبالين! وشيدتْ مدينة مترفة مغلقة (كمبوند) وأطلقت عليها القاهرة العليا (أب تاون كايرو) وتضم مباني فاخرة وفنادق وبنوك ومطاعم ومدارس وأندية وحواجز حراسة إدارية وأمنية؛ وتابعت الشركات التجارية بناء أحياء مغلقة (كمبوند) تجاوز عددها العشرين وأبرزها: اورينا، صفا، فيرونا، فلورنتا، جولدن جيتس، وأقيمت معاهد وكليات جامعية ومدارس خاصة ومستشفيات وعيادات صحية، فيما تواصل مشاريع الأثرياء التهام صخور (المقطم) وتفتيتها ومحاصرة الأحياء القديمة: الزبالين ومساكن (الزلزال).
المثير للدهشة مستويات التناقض وحجمها لدى زيارة أحياء متعارضة في جبل المقطم: حي الزبالين، دير سمعان، كنائس في تجويف الصخر، كورنيش وأبراج المقطم، النافورة، أحياء شركات إعمار وسما والنصر وسكوب الهندسية التي تقدر أسعار الفيللا ببضعة ملايين من الجنيهات!
العدالة الاجتماعية والاقتصادية وحدها طريق للنجاة للحفاظ على وطن آمن مستقر؛ تضمن العدالة لجميع شرائح الشعب بالتساوي؛ وتعلو ببلاد حكيمة تفوت الفرصة على تصادم اجتماعي بين أكثرية مسحوقة وأقلية مترفة، في ظل ارتفاع الأسعار والتضخم، وانهيار سعر صرف الجنيه المصري، وتآكل الطبقة الوسطى وانضمام شرائح جديدة إلى طبقة الفقراء الكبيرة! بلاد لا خيار لها سوى طريق العدالة لعلها تنصف ملح الأرض وتنحاز إلى أشعار أحمد فؤاد نجم
احنا ملح الأرض وتراب العجين
كل صناع الورود والمبدعين فرحانين
عند موج البحر ونجوم الليالي
عد رمل الأرض وأكثر من السنين
قولوا فرحانين