اطلس: كتب: عصام غالب عواد : منذ العام 2010، اهتزت الدول العربية من قبل حركة شارع شعبية قوية ولم تستعد استقرارها حتى الآن، أو حتى انزلقت إلى حرب أهلية
وتُظهر حركة الشارع العربي أن العنف لا يزال موجودا حتى في الدولة العربية الوحيدة التي أحرزت تقدما كبيرا من خلال التسوية (تونس) والتي سرعان ما انهارت تسويتها مؤخرا. إن المسألة السياسية (إعادة تعريف تنظيم السلطة) بالإضافة لقضية الهوية احتلت مركز الصدارة في الدول العربية التي عصف بها "الربيع العربي"، وقد كان ذلك في الغالب بطريقة عنيفة تركت القضايا الاجتماعية والاقتصادية لهذه المجتمعات بعيدة عن النقاش.
وتجد هذه المجتمعات نفسها في مرحلة تاريخية حاسمة، فهي تحاول العمل على معالجة مسألة مكانة الدين في الفضاء الاجتماعي والسياسي، في تشريعاتها وقوانينها، كما كان على جميع المجتمعات الأخرى التي سبقتها. وقد تم نقاش هذه المسألة في الدول العربية في نهاية القرن التاسع عشر مع النهضة إلا أنه تم خنق هذا النقاش مرتين: مرة بسبب الموجة الاستعمارية التي سيطرت على هذه المجتمعات، ومرة أخرى من قبل حجة توحيد الشعب والحزب والدين. وفي هذه الدورة الثورية الجديدة، تجد المجتمعات العربية نفسها اليوم منقسمة بشدة حول مسائل الهوية. ولو أخذنا تونس مثالا، فإن اعتماد الدستور التونسي في عام 2014 كان قد وفر حلا وسطا تم التفاوض عليه بشق الأنفس استجابة للمطالب السياسية (الحريات) والهوية (مكان الدين) في المجتمع التونسي، بينما تم توحيد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في نهاية عام 2014. ومن هنا فإن الانتقال السياسي، حتى لو لم يتم إزالة كل غموضه أعطى دلالة على أن المجتمع العربي يمكن أن يتبنى قاعدة مشتركة أو تسوية من خلال التنازلات المتبادلة وهي خطوة كبيرة إلى الأمام وستكون مفيدة في رسم مسار المجتمعات العربية الأخرى.
أياً يكُن من أمر، فإنه وبعد أكثر من خمسين عامًا من الجمود ما بعد الاستقلال، بدأت مجتمعات الدول العربية في التحرك مرة أخرى، مع صعود حركة الشارع في العام 2010 بحيث ينضم الشارع العربي، في تنوعه، إلى حركة أوسع نطاقا أدت بالفعل إلى تحريك مجتمعات أوروبا من شرق أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا سابقا. إن عنف التشنجات التي رأيناها في بعض المجتمعات العربية بعد العام 2010 يعطي مقياسا لثقل الاستبداد الذي جثم على صدور هذه المجتمعات، وهو نموذج أيده الغرب بحجج أمنية.
وبعد استقلال المجتمعات العربية، أدت محاولات بناء دولة حديثة في مجتمعات تقليدية في كل مكان إلى إنشاء دول استبدادية وغير شاملة على المستوى الاجتماعي والمكاني. كما أن القوى التي نفذت هذه العملية باسم التحرر لم تحول قاعدتها السياسية القوية التي اكتسبتها من خلال الحصول على الاستقلال إلى قدرة على الشروع في عملية التنمية السياسية والاقتصادية، بينما في جزء آخر من الكوكب، شهدنا ظهور دول "نامية" أصبحت فيما بعد نمورا اقتصادية. وانتهت المرحلة التاريخية التي بدأها الاستقلال في الدول العربية على نحو مفاجئ بالاضطرابات التي أحدثتها الحركات الشعبية التي ميزت استنزاف الأنظمة الناتجة عن البنى الوطنية بكل أبعادها الأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية. وتكشف هذه الأزمة أن العقدة الأساسية، التي كان يُعتقد أنه تم حلها، لم يتم تسويتها في المجتمعات، وهي مسألة شرعية القواعد (وبالتالي السلطة). وبعد اندلاع الأحداث في عام 2010، تم الكشف عن هذه المسألة من خلال الدرجات الانتخابية العالية التي حصلت عليها الأحزاب الدينية في جميع البلدان التي أجريت فيها مشاورات انتخابية مفتوحة وغير متنازع عليها.
إن هذه المسألة الكونية تتعلق بمصادر الشرعية. وتُلزمنا السؤال: من الذي يصنع القوانين؟ الله ام الرجال؟ فمنذ بداية التاريخ البشري، استمدت الجماعات التي شكلت نفسها في المجتمع شرعيتها من قوة متعالية، بعيدة عن متناول البشر: الآلهة، والله، والأجداد، وقبل عدة قرون، كان على دول أوروبا التي تباعدت عن بقية البشرية أن تجد ترتيبا داخلها بشأن هذه المسألة الأساسية، والعمل في صراعات رهيبة على تسوية تاريخية بين مؤيدي الشرعية المتعالية وأولئك الذين ربطوا الشرعية بالعقل. أما في العالم العربي، وعلى نطاق أوسع في البلدان ذات الثقافة الإسلامية، فلم يتم التوصل إلى هذا الترتيب. فقد كشفت الدوافع الشعبية حقيقة أنه لا يوجد اتفاق صريح على التسلسل الهرمي بين القوانين الإلهية وقوانين البشر. وهكذا فإن نموذجي النظام الناتج عن الاستقلال في طور التصدع، حيث إنه وبينما كان يُعتقد أنه قد تم تسويتها سابقا، فإن مسألة شرعية القواعد أُعيد طرحها مرة أخرى مع عودة الإسلام السياسي الذي تحمله طبقات كبيرة في المجتمعات العربية، كما أنه وبينما يكون سلوك المجتمعات في وضع سلطوي ومتآلف موضع تساؤل فإن الجمع بين هذين النقيضين يجعل الوضع معقدا بشكل خاص. فتتشكل دائرة تجد المجتمعات صعوبة في الهروب منها كون الجدل حول مصدر شرعية القواعد يفترض أن هناك اتفاقا على حقيقة أن هذه الشرعية قابلة للنقاش وبالتالي فهي من الإلهام البشري.
وقد أظهرت مطالب الشارع في جميع الدول العربية تشابها ملحوظا يتجاوز الاختلافات التي تميز هذه الدول. فالحركات الشعبية التي بدأها الشباب، قادت المجتمعات إلى ثلاثة مطالب مترابطة: المطالبة بالعدالة الاجتماعية مع العمل والمطالبة بالحريات السياسية والمواطنة والتعبير، بالإضافة لطلب أكثر تعقيدا بالنسبة للأنظمة يدور حول الكرامة والهوية. وعليه، فإن الحقيقة البارزة في هذه الحالة هي التشكيك في سلوك المجتمعات في وضع سلطوي مترابط يتميز بتفرد السلطة دون مشاركة من خلال مبدأ الخضوع للأقوياء، حيث يكون الآخر في نفس المجتمع خصما لا يُعترف به على أنه جزء من المجتمع ويوسم بأنه غريب، كافر، إرهابي وكل الوسائل "مشروعة" لإقصائه، بل والقضاء عليه. ويعمل هذا النظام المتجذر على جميع مستويات المجتمع، سواء داخل السلطة السياسية، والإدارة، والشركات، والهيئات المنتخبة، بل وحتى داخل العائلات.
ومع هذه الحركات الشعبية التي اجتاحت جميع البلدان، اكتشفت المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تعددية ووقفت أمام السؤال الكبير وهو: كيف تعيش في تنوع مع الآخرين في وضع آخر غير وضع الهيمنة والسيطرة كما هو الحال في معظم المجتمعات التي سبقتها للتخلص من الحكم المبني على أساس أيديولوجيا واحدة وموحدة؟ فيجد هذا السؤال تعقيدا في الإجابة عليه نتيجة تنوع الاستجابة لمسألة مكان الدين في المجتمع. علاوة على ذلك، فإن الديمقراطية ذاتها هي موضع تساؤل بالفعل، فهي ليست مبنية على الانتخابات ذاتها بقدر ما هي مبنية على ترسيخ القدرة في المجتمع على احترام النقد، والمعارضة، والآخر.
إنه وعلى عكس التحولات التي حدثت في الثمانينيات والتسعينيات في أمريكا اللاتينية ودول وسط وشرق أوروبا، والتي كانت مدفوعة بهدف واضح ومشترك على نطاق واسع وهو السير نحو الديمقراطية، فإن التحول في البلدان العربية يحدث داخل مجتمعات مقسمة على خلاف الذي لم يتم حله حول قواعد العيش معا. وكانت النتيجة في معظم البلدان هي نقاش سياسي لا يزال مجمداً حول هذه القضايا، مما فتح الباب لجميع أشكال العنف. وفي ظل هذه الظروف، كان من الممكن التقدير سلفا بأنه من غير المؤكد أن نتيجة هذه التحولات على المدى القصير والمتوسط على الأقل، ستكون حالة من الديمقراطية. فالتوترات المتعلقة بالهوية التي أخذت شكلا من أشكال العنف، أظهرت حالة من عدم اليقين بالنهاية المرجوة لحركة الشارع.
عودٌ على ذي بدء، فإن هذه الحركات تشير إلى ظهور الفرد على نطاق واسع. لكن هذا الظهور يؤدي بالضرورة إلى صراع، لأنه يُنظر إليه في الخيال الاجتماعي التقليدي على أنه عامل انقسام كتقسيم العشيرة، القرية، الحي، الحزب، والبلد. وهو يقوض التفرد الذي تم وضعه كحال مثالي لهذه المجتمعات ومن يكسر حالة التفرد في هذه الحالة هو بالضرورة مرتد وخائن وصاحب أجندة.
إن طريق المجتمعات المتعددة والمتناقضة هي طريق طويلة ومتضاربة، ويتعين على المجتمعات العربية اجتراح آلية للتعامل مع الاختلاف والمعارضة وكيفية تهدئة العلاقات بين الأغلبية والأقليات، واحترام النقد والخصم. بكلمات أخرى فإنه يتعين التوصل إلى تسوية تاريخية يجعل من الممكن إيجاد توازن بين مؤيدي المواقف القطبية المتعارضة. وحتى إذا كانت القوى السياسية التي استعادت خلال الانتخابات ديناميات الانتفاضات الشعبية تقدم خصائص التوحيد الاستبدادي (في نسختها الدينية أو في نسختها العلمانية أو المدنية أو العسكرية)، فلن تكون قادرة على المدى الطويل على إدامة انغلاق المجتمعات التي أصبحت منفتحة على العالم وأكثر تعليما وإدراكا للتعددية، ومن هنا، فإنه لا يمكن تحقيق استقرار المجتمعات العربية في ظل نظام استبدادي موحد. وبناء على ما سبق فإنه يمكن القول بأنه ومن خلال نهاية التوحيد الاستبدادي يمكننا أن نجد إجابة سلمية لمسألة مكانة الدين في المجتمع من خلال قاعدة مشتركة في هذا المجال وتطوير تسوية تاريخية. ومن الصحيح القول إن هذه التسوية قد تتبع مسارات معقدة قد تتخللها مقاومة قوية وصراعات مؤلمة داخل المجتمعات كون المعتقدات صلبة بصلابة الحديد، إلا أن هذا تماما ما ميز ظهور الحداثة في إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة، ثم في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأماكن أخرى.
إن صراع الشرعية يتجسد في التطلعات البديلة التي يحملها التياران الرئيسيان المتعارضان في جميع البلدان العربية اليوم. فمن جانب القوى التي منحت أصواتها للأحزاب الدينية، فإن الأمر يتعلق بمشروع "تديين" المجتمع، إما من خلال الاعتماد على قيود الدولة (للدفاع عن "الأصالة الدينية" للسلوك، أو من أسفل (من خلال تكليف المؤثرين في القواعد الشعبية بمهمة تعزيز هذه الأصالة الدينية، وفي كلتا الحالتين، يتم توجيه الانتباه نحو تبني السكان لأنماط الحياة التي تمليها الوصفات الدينية، في سجل حرفي إلى حد ما.
وفي مقابل التيار الديني، نجد ما يسمى بالتيار العلماني والذي يتمثل قاسمه المشترك في رفض تأثير الدين على الحياة اليومية. إلا أنه ما وراء هذا الرفض يشكل هذا التيار كلاً غير متجانس، فتجد جزءا منه يعلن عن طموحاته الديمقراطية ورؤيته لدولة تمثل مجتمعا مجردا موحدا حول الحقوق والحريات ويؤكد رغبته في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولكنه لا يقدم مقترحات ذات مصداقية للخروج من النموذج الرأسمالي المتوحش الذي يسود. وبالإضافة إلى ذلك، تكتفي هذه العناصر العلمانية بالتحالفات مع القوى التي هيمنت على المجتمعات لعقود في وضع استبدادي من خلال الدوس على الديمقراطية دون تطوير بلدهم.
دينيا كان أم علمانيا، يواجه هذان التياران تحديات عميقة. فيواجه كلاهما صعوبة في تقديم تنازلات، والاعتراف بالآخر كشيء آخر غير عدو يجب استبعاده، وتصور المشهد السياسي كقطعة واحدة. ويمكن القول هنا إن تسلسل المراحل التي عرفتها هذه الدول هو خير مثال على ذلك حيث تخلل فترة انتقال السلطة مراحل فوضوية ولم تسد في أي وقت فكرة التسوية وحاولت كل من القوى المتعارضة احتكار كل السلطة وتقليص أو حتى الإطاحة بالآخر.
إن المسيرة نحو حل وسط هي مسيرة ضرورية مهما كانت صعبة كون هذه المسيرة ستبقى تحت تأثير ميزان القوى بين الفاعلين، وهي نفسها نتيجة للتاريخ الطويل للقوى الاجتماعية التي تشكل كل بلد من البلدان، دون إغفال الضغوط الخارجية بجميع أنواعها بالإضافة إلى ثِقل الجيش، ونظام السلالات والعشائر والمذاهب والطوائف، وغياب الدولة. إلا أنه يمكن للمرء أن يتنبأ بسهولة بأنه لن يكون هناك مجتمع مستقر يقوم على سحق جزء من قِبل جزء آخر. فلا القوى التي تدعي الدين ولا تلك التي تدعي العلمانية ستعمل على استقرار المجتمع من خلال خضوع الطرف الآخر، ويجب الاعتراف بأن التوازن في المجتمعات العربية يعتمد على تبني قواعد مشتركة بين القوتين اللتين تواجهان بعضهما البعض اليوم، وهو ما يرقى إلى تطوير حداثة تتماشى مع متطلبات هوية المجتمعات. صحيح أن هذا الحل سيستغرق إنشاءه سنوات لأن ثقافة التوحيد الاستبدادي، على الرغم من التنازع عليها منذ عام 2011، تستمر في العمل ويجب على كل مجتمع أن يجد طريقته الخاصة لحل هذا الصراع على الشرعية، ولكن من المهم الإشارة أن أمرا قضائيا خارجيا لن يؤدي إلى تسريع المسيرة نحو التسوية المجتمعية وأن على كل مجتمع أن يواجه الأمر بطريقته داخليا، وعليه البحث عن إجابات الأسئلة بنفسه وبالتالي بناء أسس ديمقراطية تتماشى مع قيمه.