إلى منظومات قيمية معاصرة. بكلماتٍ يسيرة وميسرة: تحويل القبيلة إلى مجتمع مدني فاعل، والغنيمة إلى اقتصاد رشيد، والعقيدة إلى رأي عام؛ بعيداً عن تبادلية الإقصاء أو هيمنة الاستثناء.
"حُلم" الجابري هذا لم يشتم رائحة التحقق منذ القرن الحادي عشر الميلادي. فبعد أن كانت الدولة العربية منارة للفكر وجاذبة للعلم والعلماء، بينما الآخرون يسودهم الظلام، بدأت نقطة التراجع في نهاية عهد الخليفة العباسي المأمون عندما أُوقف الاجتهاد ونُحَي العقل جانباً. نتيجة لذلك ظهر عدد من الفلاسفة الشعوبيين الذين أغنوا المكتبة العالمية بمؤلفاتهم بينما توقف الإنتاج الفكري لدى العرب، باستثناء بضعة مفكرين ظهروا في الأندلس اتخذوا العقلانية منهجاً فكرياً لهم " كابن خلدون " و" ابن رشد".
الغريب في الأمر أن أفكار هؤلاء وجدت لها تربة خصبة في أوروبا، أما في العالم العربي فلم تجد لها الصدى المناسب لتبقى مادة تدرس في كتب التاريخ لا غير. من هذا المنطلق تظل مفردة " الغيبة الفكرية " لدى العرب تدق بنتائجها الوخيمة عقل كل من أراد لأمة العرب أن تسترد يقظتها الفكرية أولاً؛ ذلك أن الفكر الصحيح يمثل الأداة الرئيسة لتصحيح المسار وعافية المصير.
وما بين الغيبة واليقظة الفكرية فإن سؤال الغياب والحضور يهيمن على أمة العرب التي تموج في بحرٍ من التدخلات الأجنبية والصراعات الداخلية المتكئة على عجز ٍ يتوالد وتواطؤ يتصاعد ومواجهة مقيدة بعوائق فقدان الإرادة، واستلاب القرار، وغموض اليقين، وتمدد الجهل والفقر.
وفي سؤال الغياب فإن دفاتر التاريخ تخبرنا بأن سبب هذه الغيبة الفكرية مردها عوامل عدة، أهمها: تجميد الفكر وغياب العقلانية نتيجة قمع الاجتهاد، والحكم الشعوبي الطويل الذي فرض على العرب الجهل والتخلف، والذي كان همه السيطرة على الموارد واستعباد الشعوب دون اعتبار لتقدم فكري أو علمي، إلى جانب الاستعمار الذي نصب على البلاد حكاماً أدمنوا الاستبداد والفساد. كذلك؛ فإن الانشقاق السني ـ الشيعي وانشغال الطرفين بتناحرهما المذهبي أغرق المنطقة في خصومات وحروب داخلية شلت طاقتها المادية والفكرية. وما بين تفرد الحكام بمصائر ومقدرات الشعوب وإغلاق الاجتهاد أمام العقل حتى يُفكر ويتفكر في أمور الخلق والدين تزاوجت مصالح المؤسسة الدينية والسلطة الحاكمة لتُخرج لنا إرهاباً سياسياً وتطرفاً دينياً.
هذا التزاوج أنجب مفردتي التجريم والتحريم. تجريم كل من يقترب إلى السلطة رافضاً أو متمرداً إلى حد تغيبه جسدياً بالقتل أو سياسياً بالتدجين أو الاعتقال أو النفي وسواه. أما التحريم فتجلى بصورٍ كثيرة كمنع تأويل النصوص الدينية تأويلاً عقلانياً وزندقة من يخالف الحاكم، فضلاً عن اختلاق البدع بما يعزز سيطرة الطرفين على عقول الناس وتضليلهم.
هذا التهاوي الفكري نجم عنه تبعية سياسية واقتصادية وثقافية غدت به أمة العرب متلقية ومستهلكة لكل ما ينتجه الغرب من فكر وعلم، وأصبح مثقفوها يجترون مقولاته ويرددون آراءه ونظرياته دون أن يكون لهم دور وتأثير في الإنتاج العلمي أو الفكري.
ومن شر التهاوي الفكري للعرب إلى شرارة إرهاصات الحضور فكراً ثم سياسة. هذا الحضور يستلزم الثورة على الواقع وإحداث تغيير جوهري في البنية السياسية والدينية والاجتماعية ليس كما هو جارٍ في دول ما يُطلق عليها جزافاً بدول "الربيع العربي". هذا التغيير يجب أن يتبعه إصلاح إداري واقتصادي. كل ذلك لا يتأتى إلا بتحقيق أهداف أساسية تتمثل أهمها في: تعزيز الفكر القومي ـ الإسلامي الوحدوي باعتبار أن تشرذم الأمة سبب رئيس لتخلفها وضعفها. ، وحرية الفكر والتعبير واحترام حقوق الفرد ، بدءاً من البيت فالمدرسة فالمجتمع، ومحاربة الطائفية والمذهبية والعشائرية، فضلاً عن الاحتكام إلى الدين والعقل معاً في تفسير وتأويل النصوص الدينية، وتصويب أوضاع المرأة باعتبارها مساوية للرجل مكانة، والاهتمام بتربية الطفل رجل المستقبل ، وتغيير جذري في أساليب التعليم عبر توطين كيفية التفكير والتحليل والاستنتاج والاستشراف بدلاً من أسلوب التلقين والمعلومات البنكية المسكنة لكل تحفيز والطاردة لكل تطوير.
قد يظن البعض ليقول إن نهوض العرب من غيبوبتهم الفكرية ليسيروا في جادة الفعل الحضاري والمشاركة في التفاعلات والمفاعيل العالمية مستحيل. نقول لهؤلاء أن التاريخ يعلمنا أن ما من عمل تغييري للواقع قام به الإنسان إلا وكانت بدايته "حلم وخيال". الانتقال من الغيبة إلى النهضة قد يكون صعباً ولكنه ليس بمستحيل إذا توافرت الإرادة والتصميم في التغيير ووحدة الصفوف والاستعداد لتقديم التضحيات. علينا أن ندق خزان التهميش والتغييب وإلا بقينا مثل العيس (الجمل) في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولا!