اطلس:كتب: داود تلحمي ..كُتب الكثير عن الأديب والمثقف الكبير سعدي يوسف، الذي رحل في شهر حزيران/يونيو الماضي، في منابر عديدة، في العالم العربي والمهاجر. والتقى كلُّ من كتب عنه على القيمة الثقافية
العالية لهذا الشاعر والكاتب وصاحب المواقف والمبادئ، الذي أضاف الكثير الى الأدب والثقافة العربيين، وأغناهما ليس فقط بأعماله الإبداعية والنقدية، وإنما كذلك بترجمة عددٍ من الأعمال الأدبية الهامة من أنحاء العالم، ومن أكثر من لغة، الى اللغة العربية.
وبالإمكان أن نضيف الى ما كُتب وقيل، وهو كثيرٌ وهام، شهادةً عن مرحلةٍ حساسة عاشها الراحل الكبير في العاصمة اللبنانية بيروت، تحديداً أبان الحصار الذي فُرض عليها من قبل قوات الغزو الإسرائيلية في صيف العام 1982. كان سعدي يوسف، في تلك الفترة، يساهم في الكتابة في مجلة "الحرية" الأسبوعية التي كانت تصدر من بيروت. ولتواضعه الجم ورغبته في مزيدٍ من العطاء، عرض علينا في هيئة التحرير، حتى قبل الحصار، أن يقوم، الى جانب إسهاماته في الكتابة الثقافية، الإبداعية والنقدية، بعملٍ إضافي هو المراجعة اللغوية والصياغية لمقالات ومواد المجلة، وهو ما فعله لأشهرٍ عديدة، بما في ذلك خلال أشهر الحصار الثلاثة.
خلال هذا الحصار، كان يحضر يومياً الى مقرّ المجلة، الذي كان مقراً جديداً آنذاك، يقع في حي المزرعة ببيروت الغربية، ليس بعيداً عن مسجد جمال عبد الناصر وعن مقر حركة الناصريين المستقلين "المرابطون" اللبنانية، إحدى القوى الفاعلة للحركة الوطنية اللبنانية، وليس بعيداً عن خط التماس بين القوات الوطنية الفلسطينية- اللبنانية والقوات الإسرائيلية الغازية ومتراسها الناري القريب من مستشفى البربير المجاور. وكان يحرص على قراءة كافة المواد ويقوم بالتدقيق اللغوي والصياغي، دون أن يؤثر على عمله ما كان يجري في الخارج من قصفٍ جويٍ وبريٍ وبحري يستهدف بيروت الغربية ومواقع حركة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية فيها، وحتى بعض الأبنية المدنية. وهو قصفٌ كان في بعض الأيام كثيفاً ورهيباً، ويحول عملياً دون أية حركة في الشوارع، ويتسبّب بالطبع بالكثير من الضحايا والدمار في المواقع المستهدفة. وغالبية الضحايا كانت من المدنيين، اللبنانيين والفلسطينيين والمقيمين العرب الآخرين، كما بات الآن معروفاً.
وتابع سعدي يوسف كل أعداد مجلة "الحرية" أثناء الحصار، علماً بأن صفحاتها تقلّصت آنذاك لأسباب عملية، حيث باتت حركة العديد من الزملاء الكُتّاب صعبةً جداً، كما كان وضع المطابع صعباً أيضاً من حيث قدرتها على توفير مستلزمات الطباعة، وتأمين حضور العمال الى أماكن عملهم، ناهيك عن صعوبة التوزيع. ولم نكن، بالطبع، قد دخلنا آنذاك في عصر الإنترنت والبريد الألكتروني، كما أن جهاز "الفاكس" لم يكن معروفاً آنذاك. علماً بأن التيار الكهربائي ٍكان عملةً نادرة، باستثناء ما توفّره المولّدات الصغيرة في بعض المواقع.
والأديب الراحل نفسه كتب شهادته عن تلك الفترة، ونشرها في عددٍ من المنابر، ولاحقاً في كتابٍ صدر عن إحدى دور النشر في بيروت.
وهكذا، فسعدي يوسف، القامة الثقافية والأدبية والفكرية العالية، كان أيضا شديد التواضع، معطاءً بكل معنى الكلمة وبلا حدود، سوى طاقته على العمل، وهي كانت طاقةً كبيرة كما يستدلّ من غزارة إنتاجه الثقافي والأدبي. كان إنساناً يتّسم بدرجةٍ عالية من الأخلاقية واحترام مشاعر الناس، كل الناس. وهو كان وفياً للفكر اليساري الذي تبنّاه في مواقفه وفي سلوكه. ولا شكّ أن الكثيرين الذين عرفوه أو قرأوا أعماله تلمّسوا هذه السمات الإنسانية العالية لديه، الى جانب موهبته الشعرية وجمالية كتاباته النثرية.
وتنطبق على الراحل الكبير، بالتأكيد، المقولة الصائبة التي تفيد بأنه كلما زادت ثقافة الإنسان وقيمته المعرفية والعلمية كلما ازداد تواضعه. والعكس، بالطبع، صحيحٌ في حالاتٍ أخرى.