في نصائح ميكافيلي للأمير يقول له "احذر من مواجهة شعب يمتلك جذوة الحرية، فهو شعب لا يمكن السيطرة عليه وسيظل في حركة مستمرة، لذلك فإن القمع لهذا الصنف من الشعوب يزيد من إصراره على التمسك بمواقفه"، والشعب الفلسطيني المعروف بـ انتفاضاته المتتالية من مطلع القرن السابق الى القرن الحالي لا يمكن ان يستكين للقمع ولا يرضخ للتنكيل.
تتوفر للسلطة الحالية فرصة غير متوفرة لاحد حتى للسلطات التي تحكم الدول المجاورة، مما يجعلها شرعية دون انتخابات وهو ما يعرف بالشرعية الثورية التي تكتسبها حركات التحرر، فالشرعية هنا تكتسب في خلال العمل الوطني والثوري نفسه، وهذا لا يتطلب شيئا كبيرا، كل ما في الامر موقف وحث الناس على التصعيد تجاه العدو، وهنا يصبح الشعب ملتصق بقياداته ويدافع عنها، حتى انك سوف ترى هؤلاء الذين يتظاهرون ضد السلطة في مقدمة الصفوف للدفاع عنها والتضحية من أجلها وتصبح قوى الشعب المتحفزة للحرية معك في المواجهة بدلا من ان تكون ضدك لنتيجة معروفة سلفا بمواجهة هذا الصنف العنيد من الناس.
هذا التوجه ليس جديدا في علم السياسية، بل ان كثيرا من الدول استعملته للتخلص من استحقاقاتها، فقامت بالبحث عن عدو خارجي تفرغ غضب جماهيرها، فكيف حينما يكون العدو جاهزا ويحتل ارضك ويعتدي عليك بشكل مستمر دون توقف. وبالتالي فإن اللجوء الى مقاومته يرفع اسهمك لأمر غير مسبوق، ويجعلك الشرعي الوحيد دون منافس ويتوحد اغلب الشعب تحت رايتك.
واذا اردنا ان نعطي في ذلك مثالا فخير الامثلة كان ابو عمار رحمه الله، الذي وقع اتفاقية أوسلو مما جعل شعبيته تنخفض شيئا فشيئا في تلك الفترة، ويمكن ان نستدل على ذلك من خلال نتيجة الانتخابات الجامعية في تلك الفترة والتي حصلت فيها حركات المعارضة على الأغلبية لعدة سنوات مقابل تراجع القوى المؤيدة للاتفاق بما فيها حركة فتح نفسها، لكن ابو عمار أدرك ان الاحتلال ماضٍ في عملية تسويف للأمور ولا يريد ان يعطي شيئا حقيقيا، وادرك ايضا ان التقاعس في مواجهة الاحتلال سيخلف له مشاكل اجتماعية واقتصادية كبيرة لا يستطيع في ظل السلطة ان يجد لها حلولا ، لذلك قام بقلب الطاولة في وجه الاحتلال، وسرعان ما عادت المياه الى مجاريها وعادت شعبيته كما السابق والتي اكتسبها بفعل العمل الثوري المقاوم وليس بفعل السلام الموهوم.
واذكر هنا قصة قالها لي احد الشباب في الفصائل المعارضة أثناء حصار أبو عمار في المقاطعة ، حينما هبت جماهير الشعب الفلسطيني من كل الوطن زاحفة باتجاه المقاطعة تدافع عن قائدها وزعيمها أبان تصريح شارون رئيس الوزراء الصهيوني في حينه عندما وضع خيارين امام ابو عمار اما التصفية او الرحيل، قال بالحرف الواحد "لم اتصور يوما في حياتي بأنني سأدافع عن المقاطعة التي سجنت وعذبت فيها نتيجة موقفي السياسي من أوسلو"، واذكر ايضا كيف التفت فصائل المعارضة جميعها دون استثناء خلف ابو عمار قالبه صفحة المرحلة السابقة المسماة بالفترة الانتقالية من ذلك الزمن.
في هذا الاطار فان المطلوب لهذه المرحلة بالضبط ان نعيد تصويب الامور، واضعين الحصان امام العربة وليس العكس كما هو حاليا، فالمرحلة مرحلة مقاومة حقيقية ضد الاحتلال وليس شعار للاستهلاك المحلي، فشعار المقاومة يتطلب ان يكون هناك استحقاقات تدفعها القيادة الفلسطينية للاستعداد للمواجهة والتضحية ووقف كل اشكال التنسيق الامني، ودون ذلك سنبقى نصارع أنفسنا بينما الاحتلال يحقق ما يريد على الارض، كما ان الانتخابات وان حصلت ستكون محسومة لصالح القوى المنحازة للمقاومة وهو امر طبيعي لشعب يرزح تحت الاحتلال.