اطلس:بالرغم من أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد انحاز للأغلبية الشعبية الفقيرة والمحرومة ، وانتصر لها وسعى لإعطائها حقوقها وتأمين احتياجاتها. وبالرغم من انه عمل بشكل دؤوب ومتواصل لتحرير البلد
من النفوذ الأجنبي وتحرير الشعب من القيود الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تكبله وتفرض عليه أوضاعا مقيتة مهينة. وبالرغم من الانجازات العظيمة التي حققها ناصر على مختلف الأصعدة: السياسية والاقتصادية والمعيشية والتعليمية والثقافية ونظام الحكم، إلا أن البعض ما زال يشن على ناصر - ورغم مرور نصف قرن على وفاته - حملة شعواء ظالمة زاخرة بالأكاذيب والافتراء والتضليل والتشويه ... بما في ذلك الادعاء بأنه صادر الحريات وحارب الديمقراطية وكرَّس حكم العسكر!
نعم لقد حدَّ ناصر من تحرر وتسيب وتسلط طبقة النصف بالمائة التي كانت متحررة من القيم الأخلاقية والوطنية ، وكانت تملك كل شيء وتنعم بكل شيء وتهيمن على كل شيء، وفي المقابل أعطى الحرية والكرامة والحقوق لسائر قطاعات الشعب ... فهل هذه جريمة ناصر؟!
بداية علينا أن نسأل أي ديمقراطية نريد ولأي طبقة أو فئات اجتماعية نريدها ... هل نريد ديمقراطية النخبة أو النصف بالمائة أم الديمقراطية الحقيقية التي ينعم بها الشعب ؟
الديمقراطية ليست سلعة نشتريها أو نوزعها على الناس او نهديها للأحباء، بل هي قيم وأفكار ووعي وممارسة ونظام حياة يحتاج إلى مقومات وتدريب.
تحتاج الديمقراطية إلى توفير البيئة الاجتماعية والثقافية والفكرية اللازمة وتأمين الوعي الجماهيري السليم والممارسة الصحيحة، وهذا ما عمل عبد الناصر على توفيره وتأمينه من اليوم الأول لاستلامه الحكم ، بل لعل هذا كان احد الدوافع القوية التي من اجلها قام بالثورة.
علينا أن نتذكر أن عملية دَمَقرطة المجتمع وإشاعة الديمقراطية لا تتم بكبسة زر ولا بفرمان سلطاني ولا بحرق المراحل.
كانت غالبية الشعب المصري قبل الثورة تعاني من الأمية والفقر والحرمان وتمشي على الأرض حافية القدمين ولا تجد ما يسد رمقها ، فهل يمكن دعوَتها فورا لممارسة الديمقراطية ؟ وهل يمكن اعتبار هذه الدعوة واقعية مجدية ؟!
علينا أن لا ننسى أن أوروبا احتاجت إلى مئات السنين وعشرات الحروب حتى بلغت ديمقراطيتها المعاصرة ، ولا داعي للتذكير بالقول المأثور(الفقير الجائع يكاد لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف)
أما ما يقال عن تكريس حكم العسكر فهو يحمل ظلما للحقيقة وظلما لعبد الناصر الذي سارع إلى نزع البذلة العسكرية في وقت مبكر، وهو الذي كان يعاني بنفسه من مضايقات العسكر (عبد الحكيم عامر ومجموعته) وتدخلهم الفظ والفج في شؤون الإدارة والسياسة ، وتسببوا لناصر بكثير من المشاكل والأزمات.
ويكفي للدلالة على ذلك أن نستمع إلى شهادة وزير الصناعة المصري في عهد ناصر(عزيز صدقي) ... هذا الرجل الوطني المبدع والفذ والذي بنى لمصر 1200 مصنعا ولُقب ب (أبو الصناعة المصرية ) والذي اختاره السادات لاحقا - في بداية عهده - رئيسا لوزراء مصر.
لجأ عزيز صدقي إلى ناصر شاكيا من تدخل رجالات عبد الحكيم عامر ومباحثه الجنائية في شؤون وزارة الصناعة ( بحضور عامر وعلى مسمعه ) فانتصر له ناصر وأمر بسحب المباحث الجنائية (مش بس من وزارة الصناعة بل ومن جميع أجهزة الدولة ) وقد شهد هيكل بهذه الواقعة وذكر أن عبد الناصر قد أعجب بموقف وجرأة وصلابة عزيز صدقي
(راجعوا شهادة عزيز صدقي خلال مقابلته مع سامي كليب في برنامج زيارة خاصة الذي بثته قناة الجزيرة في نيسان 2007 وتعليق هيكل على الواقعة).
وهل يمكن أن يتصور احد أن الشاعر العروبي الكبير نزار قباني، الذي فاق الجميع في حب ورثاء وتأبين جمال عبد الناصر، قد مُنِعَ في عهد ناصر من دخول مصر مما دفعه إلى التواصل مع الرئيس الراحل الذي تفاجأ من وجود قرار كهذا وألغاه فورا !
ورب سائل يسأل: لماذا غض جمال عبد الناصر الطرف عنهم وعن الاستفزازات والتدخلات التي كانوا يقومون بها ؟
وللرد على ذلك نقول وهل نسيتم أن القيادة في مصر كانت جماعية ..بيد مجلس قيادة الثورة؟
وهل نسيتم أيضا ما كان قد تعرض له ناصر (وما زال إلى اليوم) من تجريح وافتراء عندما وضع مجلس قيادة الثورة حداً لمحمد نجيب فتضامنت مع نجيب فجأة كل قوى الرجعية ورموز العهد البائد وأعداء ثورة يوليو وأعداء العرب .
وهل نسيتم أن الحديث يدور عن أناس كانوا بالنسبة لناصر - قبل أن يضلوا - شركاء وأصدقاء ورفاق نضال ولهده العلاقات حرمات وواجبات وناصر كان إنسانا وفيا ولم يكن طاغية ولا عقورا.
مع الإشارة إلى أن عبد الناصر كان حازما وتصرف معهم كما يجب عندما تجاوزا الأعراف وسمح الشعب وسنحت الظروف ... عندما انكشف أمرهم أمام الشعب المصري عام 67 ، وبعد أن أعطى الشعب المصري للرئيس ناصر تفويضا جديدا وبيعة جديدة يوم 9 يونيو 67 ، حيث قام ناصر بعزلهم واعتقالهم وحولهم للمحاكمة.
يمكن تقسيم عهد جمال عبد الناصر إلى مرحلتين:
الأولى - التي تلت انتصار الثورة وشهدت رفع الظلم والفقر عن كاهل الشعب المصري وتقوية وصيانة الاستقلال الوطني وتنفيذ الإصلاح الزراعي وبناء 1200 مصنعا وتشييد السد العالي والنهوض بالزراعة والاقتصاد وتأميم قناة السويس وإقرار مجانية التعليم و..و..و ....
والمرحلة الثانية – تلت حرب حزيران 67 مباشرة حيث أجرى الرئيس عبد الناصر مراجعة نقدية عميقة شاملة جريئة، ومارس النقد الذاتي بصراحة وشفافية وصِدْق ، سواء على صعيد مداولات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي أو في بيان 30 مارس 1968 الذي صوت عليه الشعب المصري ليصبح وثيقة ملزمة وتعتبر مراجعة نقدية جريئة وبرنامجا للعمل الوطني وخطة للإصلاح السياسي الداخلي والبناء تجسد فكر جمال عبد الناصر .
رفع جمال عبد الناصر في المرحلة الثانية من حكمه شعار إزالة أثار العدوان ودعا إلى تعميق تلاحم الجيش والشعب ووضع الإصبع على العيوب والأخطاء واستخلص النتائج والعبر، ورفع شعار (وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ) ودعا إلى الشروع في ثورة تصحيح وتطهير الصفوف من كل المنتفعين ، وشدد على حصانة القضاء وشكَّل المحكمة الدستورية ، وعمل على تقوية أسس الديمقراطية وإعادة بناء الاتحاد الاشتراكي بالانتخاب من القاعدة إلى القمة، وسعى لوضع دستور دائم وأن يُطرَح هذا الدستور إلى الاستفتاء الشعبي العام يليه إجراء انتخابات لمجلس الأمة ورئاسة الجمهورية، وكان من نتائج هذا النهج الحازم أن استعاد الجميع الثقة والأمل ، وتم الانتصار في حرب الاستنزاف وبناء حائط الصواريخ وإعادة بناء الجيش المصري الذي انتصر لاحقا في حرب العبور في أكتوبر 1973.
ولكن الموت لم يمهل المرحوم جمال عبد الناصر لاستكمال هذا البرنامج الإصلاحي والثوري، حيث توفاه الله يوم 28 أيلول / سبتمبر عام 1970 عن عمر 52 عاما.
* بالإمكان مراجعة محاضر جلسات اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي في أعقاب النكسة، وبيان 20 مارس 1968
وبعد ،
ألا ترون أن استمرار حملات التزوير والتضليل والتشويه والتشهير ضد عبد الناصر، رغم كل هذه الإنجازات ورغم المراجعات النقدية التي قام بها والتي لا مثيل لها في التاريخ العربي المعاصر، إنما تَنِمّ عن حقدٍ مرضي شـاذ وتأتي في سياق محاربة السياسة الوطنية التحررية التي انتهجها عبد الناصر، وضمن محاولات اغتيال القدوة الحسنة الملهِمة من أجل تيئيـس الأجيـال العربية الجديدة وترسـيخ حالة التخـلف والانكسار والتبعية التي تعاني منها أمتنا ، وهذا كله يصب في مصلحة الأعداء ويقدم لهم خدمات جليلة.