اطلس:يمكن القول بداية أن الهلاك سليل الفساد وأن العمود الفقري للفساد هو الفقر الذي يؤدي إلى الكفر وأبواب الشرور كلها، بحيث لا توجد آية في القرآن الكريم تتحدث عن الفساد إلا وتليها أية تتطرق إلى الهلاك والعاقبة الكبرى للمفسدين. والأمثلة على ذلك عديدة، أهمها
"وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا" (الآية 16 من سورة الإسراء) وأيضا الآيات التالية "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (الآية 205 من سورة البقرة). " فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" (الآية 14 من سورة النمل)، و" الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد "(الآيات 11 ـ 14 من سورة الفجر).
وكان الفساد بعمومه، لا سيما المالي منه أول المظاهر الاقتصادية السلبية التي عالجها الإسلام منذ بداياته، فشن حرباً لا هوادة فيها على الاستغلال والاستعباد وتطفيف الميزان والغش والاحتكار والسرقة والرشوة والربا والسرقة والاغتصاب، ومن ثم التعدي على المال العام وغير ذلك، واستمر في محاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه، وقد وضع التشريعات القانونية التي تمنع كل مظاهر الفساد المالي، فحرم السرقة، فقال تعالى:" السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق ، فلهم النار يوم القيامة"، وهناك الكثير من الأدلة الشرعية المحرمة للغش والرشوة والاحتكار والاختلاس وغيرها، ولا مجال لذكرها هنا.
هذه الإدانة القاطعة للفساد في الينابيع النقية للثقافة العربية الإسلامية لا نفي أن بعض البنى الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية العربية التي تتغذى على العصبية والولاءات الاجتماعية الضيقة، في غياب مؤسسات المجتمع المدني الصالحة، وضيق المجال العام بسبب التضييق على الحريات، وخلل الحكم، تكون بيئة خصبة لانتشار الفساد وتحوله إلى وباء يفتك بالبنى التكوينية الشاملة لواقع المجتمع والحؤول دون تطوره مستقبلاً.
ونود قبل الخوض بشيء من التفصيل في قضايا الفساد الإشارة سريعاً إلى ما قاله تقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر مؤخراً، حيث يبين "ثلث الفساد المالي مركزه الوطن العربي، ونصفه في العالم الإسلامي، وأن حجم الفساد المالي في العالم يقدر بألف بليون دولار، منها ثلاثمائة بليون في الوطن العربي وحده، أي أن حجم الفساد المالي في الوطن العربي يساوي ثلث الفساد العالمي، فإذا أضفنا حجم الفساد في الدول القائمة في العالم الإسلامي الأخرى فإن حجم الفساد في العالم الإسلامي يتجاوز نصف الفساد العالمي، والفساد المقصود في هذا التقرير ينحصر في سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية. فكيف لو تحدث التقرير عن أنواع الفساد الأخرى الأخلاقية والبيئية والإدارية والتعسف في استغلال السلطة ومواقع المسؤولية والاجتماعية، وحتى في مجالي الفن والأدب وغيرهما كثير.
هذه المعطيات المريعة تنذر بوباء مستفحل وشامل للمشهد العربي والإسلامي، وبمجمل تراكيبه ومجالاته، فليس غريبا ما نراه من نسب الفقر والبطالة والحرمان والضياع والتشتت لملايين من العائلات في العالمين العربي والإسلامي، فمصر على سبيل المثال التي يصف سكانها عالم اجتماع ألماني "يحاربون ليس من اجل العيش، بل من أجل البقاء" تبلغ قيمة ومقدار الأموال المهدورة جراء أشكال الفساد المتعددة قرابة الخمسين مليار جنيه سنوياً، وبمعدل عملية فساد في كل دقيقة واحدة. هذا المشهد التراجيدي أدى بنسبة كبيرة من سكان أكبر بلد عربي لأن يعيشوا في ظروف حياتية لا تطاق، وها هي المظاهر الاجتماعية الخطيرة تظهر يوماً بعد آخر كانتشار الاغتصاب والتحرش الجنسي والقتل والسرقة، إلى جانب التسول تحت بند "البقشيش" أو الإكراميات".
وقبل أن ندلف إلى استعراض بعض المحاور ذات الصلة المباشرة بالفساد عموماً، نود الإشارة هنا إلى أن الفساد هو واحد في كل أنحاء وأنواع المجتمعات، إلا انه يختلف من مجتمع إلى آخر بالدرجة لا بالنوع من حيث كونه موجود في الدول الغربية المتقدمة مثلما موجود في دول العالم الثالث، فهو إذن يشبه رائحة الثوم . هو ..هو لا يتغير. هذا من حيث الانتشار، أما الأسباب فهي كثيرة ،يمكن لنا إجمال أهمها في الآتي: الفقر، الاستبداد السياسي، الهوة بين الأغنياء والفقراء، انعدام أو ضعف الأخلاقيات الوظيفية للعمل الحكومي وغياب مفهوم المساءلة العامة والمسؤولية، ازدياد حجم القطاع العام، فكلما اتسعت مجالاته ازداد الميل نحو الفساد، وأدى ذلك إلى بيروقراطية ذات توجهات تعنى بالتوزيع لا الإنتاج ، التحيز العنصري، صراع ثقافتين أو قوتين في مجتمع واحد، محدودية قنوات التأثير الرسمية على قرارات أجهزة الدولة الحكومية، وجود هياكل قديمة لأجهزة الدولة، عدم العدالة في توزيع الثروة ،ضعف التفتيش والرقابة والمتابعة، إلى جانب هشاشة العقوبات المفروضة على الفاسدين، إن تم محاسبتهم في الأصل.
ومن الأسباب إلى النتائج لهذا الوباء الكوني المريع، حيث تشير معظم الدراسات المسحية والوصفية إلى أن أبرز وأخطر نتائج الفساد تتمثل في: حالات الإفقار وتراجع العدالة الاجتماعية وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع نتيجة تركز الثروات والسلطات في أيدي فئة الأقلية التي تملك المال والسلطة على حساب فئة الأكثرية وهم عامة الشعب الفقراء من خلال سوء توزيع الدخول بشكل غير مشروع وما قد ينجم عن ذلك الإفقار من ملابسات كثيرة قد تؤدي بهذه الفئات المسحوقة إلى ارتكاب سلوكيات خاطئة وخطيرة من شانها تعطيل قوة فاعلة في المجتمع، من الممكن الاستفادة منها لو أحُسن التعامل معها.
وأيضاً هنالك نتائج أخرى، منها: ضياع أموال الدولة التي يمكن استغلالها في إقامة المشاريع التي تخدم المواطنين بسبب سرقتها أو تبذيرها على مصالح شخصية، وما لذلك من آثار سلبية جداً على الفئات المهمشة، خاصة الأطفال والمعاقين والنساء، إلى جانب عدم تقديم الدول الأجنبية مساعدات للدولة بسبب انتشار الفساد فيها، الأمر الذي يحرم المواطنين من هذه المساعدات، لا سيما هذه الفئات. وإضافة إلى ذلك، فان الفساد يؤثر على حقوق الأطفال والمعاقين لا سيما فيما يتعلق بالخدمات الأساسية مثل التعليم الابتدائي والخدمات الصحية، ناهيك عن التأثير الأخطر من ذلك، وهو مساهمة الفساد بشكل مباشر في تشويه التجارب الديمقراطية وعمليات السوق الحر والاقتصاد الليبرالي عن طريق التلاعب بآليات السوق وسلب البشر من منافعه.
وتظهر آثار الفساد بشكل واضح على المهمشين، فبسبب هذا الفساد الواسع يحدث فقدان الثقة في النظام الاجتماعي السياسي، وبالتالي فقدان شعور المواطنة والانتماء القائم على علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، إلى جانب هجرة العقول والكفاءات والتي تفقد الأمل في الحصول على موقع يتلاءم مع قدراتها، مما يدفعها للبحث عن فرص عمل ونجاح في الخارج، وهذا له تأثير على اقتصاد وتنمية المجتمع عموماً.
ومما لا شك فيه أن الحديث عن الفساد يمتد كثيراً، ولكن قصارى القول: أن محاربة الفساد والقضاء على المفسدين ستدفع الأمة دفعاً إلى عالم النهضة والتقدم، فهذه المليارات التي تذهب عن طريق الفساد إلى جيوب حفنة من المتنفذين والمسؤولين وكبار الموظفين كفيلة بإقامة المصانع والمزارع التي تجعلنا سادة أنفسنا وتخلصنا من هيمنة الآخرين الاقتصادية علينا وما يتبع تلك الهيمنة من هيمنات أخرى سياسية واجتماعية وتعليمية في شتى الصعد، مع العلم هنا أن حجم الأموال المنهوبة بسبب الفساد سنوياً يكفي لتوفير 20 مليون فرصة عمل جديدة في الوطن العربي، وسيزيد دخل الفرد بمعدل 986 دولار سنوياً(وفق ما نشر في جريدة الغد الأردنية) في 9/12/2005.
فأي آفاق للنهوض والتنمية سيفتحها قمع الفساد ونظافة اليد والنزاهة. إنها الآفاق الرحبة وتحقيق العدالة التي بإزهاقها زهقت أرواح كثيرة وتعذبت نفوس أكثر بالفقر والبطالة والحرمان في عالم لو زرع نصف أرضه لكفت خيراته جميع سكانه (كما يذكر علماء الجغرافيا).