اطلس: هل حقاً يؤمن العرب بمبدأ حرية الاعتقاد؟ أم نحن ضد هذه الحرية بالذات؟ أم نحن جزئياً مع هذه الحرية، طالما تتماشى مع معتقداتنا فقط. هل يستطيع الإنسان الذي يعيش في عالمنا العربي أن يؤمن بما يشاء ولا يؤمن بما يشاء. في أوروبا تستطيع أن تكون مسيحياً أو مسلماً أو شيوعياً
أو ملحدا أو بلا دين أو بلا مبدأ أو بلا عقيدة، وتعيش تماما مثل باقي المواطنين. فالدولة الأوروبية والمجتمع الأوروبي لا يكترثان لفحوى عقيدتك ومُسمّاها، ويعتبران أن هذا شيء يخص الإنسان وحده وليس غيره. بينما تكترث الدولة العربية بديانة الإنسان وتضعها على هويته الرسمية، وكذلك تكترث المجتمعات العربية بديانة الإنسان وتصنّف الإنسان حسب ديانته ومدى تدينه.
وتختلف الدول العربية في مسألة تعاطيها مع موضوع حرية الاعتقاد. فالحكومات العلمانية، التي لا تدعي أنها دينية كما في دول بلاد الشام والمغرب العربي، لا تكترث كثيراً في ملاحقة الناس على معتقداتها إلا إذا كان هناك حدثاً كبيراً متعلق بهذا الموضوع وأثار ضجة اجتماعية. أما دول الخليج مثل السعودية وغيرها التي تقدم نفسها على أنها دولة تحكم بالشريعة الاسلامية، فلا شكّ أنه لا مزح ولا مزاح في موضوع العقيدة، فقد يتم قتل الإنسان المسلم إذا غيّر ديانته الإسلامية إلى دين آخر أو أصبح بلا دين. وبالفعل قامت محكمة سعودية بالحكم بالإعدام على شاعر بتهمة الردة في عام 2015 وأعدمت غيره الكثير بسبب تركهم للدين الإسلامي. وقد اثارت الناشطة السعودية المقيمة في كندا، فايزة المطيري، جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن أعلنت في يناير هذا العام التحول عن الديانة الإسلامية واعتناق المسيحية. ولا شكّ أن إسقاط حد الردة يثير جدلا في السعودية هذه الأيام في السعودية وحتى قبل الانفتاح الأخير الذي شهدته المملكة. ويستند بعض الفقهاء الذين يناهضون فكرة قتل المرتد إلى أن النبي محمد لم يثبت أنه قتل المرتدين، بالإضافة إلى الآية الكريمة التي تنص صراحة أنه لا إكراه في الدين.
إن الضغوطات الشديدة على المواطن العربي من قبل مجتمعه حول طبيعة معتقداته أكثر بكثير من تأثير الدولة والحكومة عليه. فلا يجرؤ أي شخص مسلم على مجرّد التفكير في أن يغيّر ديانته من الإسلام إلى المسيحية، أو شخص مسيحي ليصبح مسلماً، بسبب الضغوطات العائلية والقبلية، وضغوطات زملاؤه في العمل وفي النادي وأينما يذهب، بل حتى إذا أراد فقط أن يتزوج من إنسانة عربية ولكن من غير ديانته، ودون أن يغير هو ديانته، تقوم الدنيا عليه ولا تقعد وتنهال عليه ضغوطات اجتماعية وعائلية لها أول وليس لها آخر. فأين حرّية الاعتقاد التي نتحدث عنها، وأين القوانين الدولية وقوانين حقوق الإنسان التي تصون ذلك، وأين القانون الأساسي للدولة الذي يضمن الحريات للجميع. وحتى في الدول العربية التي ينص قانونها الأساسي على صون حرية الاعتقاد، قد لا تستطيع أن تحمي مواطن أحب أن يمارس تلك الحرية وقام باعتناق دين جديد.
لقد قامت مجموعات متطرفة على مدار عدة سنين بشيطنة كثير من المبادئ والقيم العالمية لأنه تخالف توجهاتهم، وانطلقوا بالتكفير والتحقير والتحريض على كل من يخالف فكرهم ولم يحترموا معتقدات غيرهم. وللأسف انتشر فكرهم المتطرف في أذرع المجتمعات العربية المختلفة، وأصبح منهم من يقوم بتدريس العنصرية والتحقير والكره وعدم قبول الآخر بشكل علني في المؤسسات الدينية والهياكل التنظيمية بل وعلى الفضائيات وأمام الجميع بلا ضابط أو رادع. وأصبحت كلمة ليبرالي أو علماني أو ملحد وكأنها وصف للشيطان نفسه. فمن وجهة نظر بعض المتطرفين، الذين يمارسون الترهيب الفكري قبل الترهيب المادي، اعتبروا مبدأ الليبرالية كفر، والعلمانية كفر والإلحاد جريمة لا تغتفر. بينما في الدول والمجتمعات التي تحترم حرية الاعتقاد، لا يوجد فرق بين مؤمن بديانة معينة، ومؤمن بديانة أخرى، أو غير مؤمن بكل الديانات. هذه حرية فردية تخص الشخص نفسه. وبالرغم من أن الليبرالية والعلمانية ليستا ديانات بل مبادئ لها تعريفاتها ومدلولاتها السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية، إلا أن المتطرفون قاموا بشيطنتها لأنها تضرب في الصميم تشددهم وترهيبهم الفكري. والبوذي كافر من وجهة نظرهم، والسيخ والهندوس والشينتو (اليابانية) وكل من يخالف معتقداتهم كافر شرير. ولا ننسى أنّ أحد المتطرفون قتل المفكر المصري فرج فودة سنة 1992 فقط لأنه كان علمانياً، ومن قتله لا يعرف شيء عن العلمانية. والقائمة لا تتسع هنا لسرد قوائم طويلة من مفكرين وأدباء وفنانين تم قتلهم بسبب مبادئهم التي يحملونها.
وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن "لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره". لذلك فعلى الدولة أن تتخذ ما يلزم من تدابير لمنع واستئصال أي تمييز على أساس الدين أو المعتقد. ولكن للأسف تجد الإذاعات الرسمية للدول العربية وفضائياتها هي التي تقوم بنشر العنصرية والتمييز والاضطهاد والتشدد والإرهاب الفكري ثم يتساءلون كيف ينمو الإرهاب وكيف يزداد المتطرفون قوة وتعدادا. إن ظهور داعش في السنوات الأخيرة ومن ثم سقوطها كان مؤشرا لم تلتقطه للأسف الدول العربية والأحزاب والقوى السياسية المدنية، وما زال الخطاب العنصري الإقصائي للآخر يغزو مجتمعاتنا العربية. لذلك لا بدّ من مراجعة كل ما تقوم به الدولة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني من أجل وضع التدابير اللازمة لصون الحريات وعلى رأسها حرّية الاعتقاد، حتى تأمن الناس على حياتها وعلى أولادها وتحيا بحرية وكرامة في مجتمعها بعيداً عن الشعور بالخوف والتهديد والترهيب. سكوتنا عن الترهيب الفكري هو دعما له.