على المستوى الرسمي كان الهدف اعادة ترتيب المنطقة طبقا لتطلعات التحالف الصهيو امريكي وجوهره ابتلاع فلسطين والسيطرة على المنطقة ،وقد ادت حرب حزيران 1967 الى رفع مكانة اسرائيل لدى امريكا وتعاظم نفوذ المحافظين الجدد الصهاينة المسحيين وبالتالي تعاظم الدعم الامريكي لنهج أسرائيل وممارساتها،مع صمت مريب ومشين للأنظمة العربية ،وفي هذه الاثناء نشطت عمليات اغتصاب الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان لتخلق أمرا واقعا يصعب الرجوع عنه ،ولم تدعم الانظمة العربية الشعب الفلسطيني ليكون قادرا على الصمود في مواجهة التوسع الصهيوني الاستيطاني . .
في أجواء احتفالية وأمام جمهور مؤيد لاسرائيل وفي قاعة تعج بمرتدي القبعات الدينية التي تعتريهم هلوسات معركة (هارمجدون) ،وبحضور سياسيون أبرز ما في سيرتهم الذاتية خبرتهم في مجال السمسرة سفراء دول تطبيع عربي يرتبط بقاء حكم أمرائها ورؤسائها بالرضا الصهيو امريكي ،وصاحبي الحفلة هم رئيسان فاسدان واهوجان يعزفان على أوتار الشعبوية الدينية والقومية في كرنفالية (صهيو انجليكانية)، اعلن الرئيس الامريكي ترامب وبحانبه رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو تفاصيل صفقة القرن والتي تتضمن سيادة وسيطرة اسرائيل على المستوطنات في الضفة الغربية ،وكذلك السيادة على غور الاردن وان القدس عاصمة موحدة لاسرائيل ،وان عاصمة الفلسطينين ستكون في منطقة تقع الى الشرق من الجدار المحيط باجزاء من القدس ويمكن تسميتها بالقدس، وان تكون غزة وسائر الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح وانشاء طرق مواصلات سريعة بين الضفة وغزة قد تمر بالاراضي الخاضعة لسيادة اسرائيل ،وأوضح انها تشمل قيام دولة فلسطينية مكبلة ومثقلة بالشروط بعد مرحلة انتقالية تستمر اربع سنوات، وان اسرائيل وافقت على تجميد الأستيطان خلال هذه المرحلة وان القدس ستبقى عاصمة لاسرائيل ،موضحا بان تلك الصفقة عظيمة وتاريخية للفلسطينين لتحقيق دولة خاصة بهم ووصفها بانها الفرصة الاخيرة للشعب الفلسطيني ،والمتمعن في خطة صفقة القرن يجد بانها مؤامرة خطيرة ضد الشعب الفلسطيني لانها تقضي باعتراف الولايات المتحدة بسيادة اسرائيل على اجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة والتي تنوي اسرائيل فور انتهاء المؤتمر الذي اعلن فيه عن مضمون صفقة القرن بان تفرض القانون الاسرائيلي على جميع المستوطنات وغور الاردن ،فهي مؤامرة واعادة انتاج جديد للنكبة الفلسطينية بمواصفات عصرية تحاكي القرن الواحد والعشرين لأنها تتجاهل الفلسطينين ،فهم ليسوا شركاء في وضعها ولم يتم التشاور معهم بشأنها ،وانما تفترض ادارة ترامب واسرائيل بامكانية فرضها عليهم من منطلق ان بامكان اسرائيل ان تفرض سيادتها على اجزاء واسعة من الاراضي في الضفة الغربية وعلى المستوطنات وعلى غور الاردن ،الامر الذي يعني بانه سيكون الوضع القانوني لهذه المناطق شبيه بوضع القدس الشرقية بنظر دولة الاحتلال ،اي ان دخول الفلسطينين الى تلك المناطق يستوجب منهم الحصول على تصريح من الاحتلال الاسرائيلي ،والاعتراف بيهودية اسرائيل يعني الاعتراف بيهودية القدس وغور الاردن وجميع مناطق المستوطنات ،اي الاعتراف بيهودية ما لا يقل عن 30%من اراضي الضفة الغربية وربما اكثر .
من الواضح بان تداعيات صفقة القرن ستطال الاردن ،حيث ان غالبية مواطني الاردن هم من اصول فلسطينية ،فالاردنيون على مستوى النخب السياسية والفكرية منهمكون في استطلاع سبل ووسائل التعامل الاردني مع تداعيات صفقة القرن بعد الكشف عنها وهناك سجالات وحوارات بشأنها ،ومن هذه الخيارات هناك عدة سيناريوهات مهمة ،منها سيناريو المواجهة كأن تقرر الدولة الاردنية بان هذه الصفقة تهدد هويتها الوطنية وتعلن رفضها بشكل رسمي ورفض التعاون في تطبيقها ، وهذا مستبعد لانه شديد الكلفة على الاردن ،والسنياريو الاخر هو سيناريو التكيف وهو ان تبدأ الاردن في البحث عن نصف كأس ممتليء من الصفقة الامريكية لتبني الشيء على مقتضاه ساعية الى بذل ما في وسعها لتطوير الصفقة بما يقربها من صيغة الحد الادنى لحل الدولتين مضافا اليها قليل من التعويضات ،خاصة وان المواقف العربية ازاء الصفقة يمكن وصفها بانها مريبة ومتواطئة وهي تنظر الى الرئيس ترامب وهو يكتب ويرسم خطته بأعواد من الثقاب التي من الممكن ان تؤدي الى الانفجار والفوضى في اي وقت ،حيث انه وبالنظر الى عدد المستوطنات التي يبلغ عددها 156 مستوطنة وكثافة انتشارها في الضفة الغربية والتي تبلغ مساحتها (5655)كيلو متر مربع ،وبالنظر الى العدد الكبير للمستوطنين ،هذا الامر يشكل عائقا امام اقامة دولة فلسطينية يجعل من اقامتها امرا شبه مستحيل لانها ستصبح اشبه بالجزر المستقلة عن بعضها البعض ويتنافى ذلك مع مفهوم الدولة الحديثة ومع مسوغات عنصر السيادة للدولة في النظم القانونية الحديثة .
في خضم المشهد السياسي المحتدم بالنقاش وبتحليل لبنود صفقة القرن لا غرابة في حضور سفراء دول التطبيع العربي والخيانة العربية كرنفالية الاعلان ،فدول الخيانة العربية تمارس فحشاء التطبيع مع اسرائيل ما استطاعت الى ذلك سبيلا ومثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ،فتلك الدول باتت تنظر الى فلسطين والقدس كعقبة في طريق تطوير خستها وخيانتها مع الاحتلال الاسرائيلي ،فتلك الدول المارقة وانظمة الخزي حريصة على ذاتها واستقرارها ونظامها الابوي اكثر من حرصها على القدس والمسجد الاقصى وحتى من الكعبة نفسها ،فهي منخرطة تماما في صفقة القرن وتتأمر وهي صنيعة المؤامرة والاستعمار على اقدس قضية في التاريخ المعاصر وسحقا للقوم الظالمين، والخطيرا جدا في في موضوع هذا النوع من التطبيع بانه يعكس نمطا جديدا الذي يمكن تسميته بالتطبيع الأيديولوجي العقائدي الذي لا يعكس قبولا واعترافا رسميا عربيا باسرائيل فقط ،وانما ايضا اعترافا وقبولا بنظريتها وايديولوجيتها العقائدية ،والنتيجة القبول بالنظرية العنصرية في حق اليهود في استعمار فلسطين كونها ارضا يهودية في الاساس كما يزعمون ،وهذا التطبيع العقائدي بدأنا نتلمس ملامحه بخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي حيث بات ينتشر الكلام على ان هذه الارض لليهود وان الفلسطينين شعب طاريء وجديد عليها والكثير من هؤلاء الناس من بلدان الخليج ،وهذا النوع من التطبيع يهدف الى اعادة كتابة تاريخ المنطقة بموافقة عربية رسمية ، وهنا تثور عدة تساؤلات: ما هو مدى تحقق صفقة القرن على ارض الواقع؟! وماذا أعد الشعب الفلسطيني لهذا اليوم العظيم ؟وما هي تنبؤات الوضع السياسي في المستقبل فيما يتعلق بتلك اللعنة السياسية المسماة صفقة القرن ؟وما مدى وقوف العرب مع الشعب الفلسطيني في مواجهة تلك الصفقة ؟!
للأجابة على تلك التساؤلات الجارفة لا بد من القول بأن الرئيس الامريكي عندما اعلن تلك الصفقة لم يكن فقط مدفوعا من موقفه الاستراتيجي الداعم للكيان الاسرائيلي فقط ،وليس بدافع مصالحه الكبرى والسطيرة على منابع النفط والممرات فقط فهذا ثابت في موقفه ،ولكن التطور الجديد جاء من خلال قراءة حالة المنطقة من تشتت وانهيارات ،متماشيا مع مشروع برنارد لويس حول مستقبل الوطن العربي شرقا وغربا وتشكيل شرق اوسط جديد يمر باسقاط الدولة الوطنية وتقسيمها وصناعة الموت والوصول بالنتيجة للاستيلاء على فلسطين ، ولا بد من القول ان شرعية الحقوق الفلسطينية ترتبط بالوجود التاريخي للعرب على ارض فلسطين وتستند الى الحقائق التاريخية والموضوعية المرتبطة بذلك الوجود ولا تعتمد على الدعم العربي حصرا ،فشرعية القضية الفلسطينية مستمدة من نفسها ومن الواقع الفلسطيني ذاته لا من التأييد العربي ،فالدعم العربي لقضية فلسطين مهم ومطلوب ولكن لا يعتبر حجر الاساس لشرعية القضية الفلسطينية المستمدة من فلسطين نفسها ،لذلك فالرفض الفلسطيني الحقيقي والمطلق هو حجر الاساس لقتل صفقة القرن ومسارها واحداثها ،ففي حالة القبول العربي للصفقة فان الرفض الفلسطيني هو المقياس الذي ستتحطم على صخرة صموده تلك المؤامرة البشعة ،فرغم ان الوضع الفلسطيني الرسمي والفصائلي يعاني من ازمات متعددة بدءا من الانقسام الذي اسهم بشكل كبير في تبديد الجهد الفلسطيني وأطلق العنان للاستيطان في الضفة والقدس ،ورغم اقتناع المستوى السياسي الرسمي الفلسطيني بحدوى العملية السياسية الموهومة بل وحصر الكفاح في اطارها الامر الذي افقد الفلسطينين الكثير من اوراق القوة ،الا ان الشعب الفلسطيني وفي اللحظات الحاسمة وعندما يتعلق الامر بالثوابت المقدسة يقول كلمته التي لن يستطيع احد على تجاوزها وهي خطوط حمراء .
ما من ريب بانه وبنظرة استشرافية لما قد يحدث في ظل اعلان صفقة القرن يمكن القول بان هذا الحدث ستكون له تبعات مباشرة تصب في تغذية خطاب الحركات والجمات الاسلامية بشتى تفرعاتها الدعوية والسياسية والجهادية في زمن افول النظام الرسمي العربي وتقهقره بل وانسجامه مع مخططات الاستيلاء على فلسطين ،وان المنطقة العربية تتجه نحو مزيد من الفوضى من هول الفيجعة السياسية بشرعنة تهويد القدس والغور والاستيلاء على الارض ،وانها محاولة لاغتيال قضية شعب حر فشلت كل محاولات اطفاء جذوة النضال في ضميره ،وان من هم وراء تلك الصفقة اليائسة يعرفون بانها لن تقبل من اصحاب القضية ولن تحظى باي مباركة شعبية وانهم بذروا بذرة في ارض لا تنبت شجرا ولا تجني ثمرا ،والخطورة تكمن ليس في وضع العربة امام الحصان بأن يتقدم الاقتصادي على السياسي وانما في ما يخبئه منبتو هذه المبادرة عند الاعلان عن فشلها من بدائل اكثر خطورة وعنفا لتصفية القضية جذريا واغتيال السلام في ارض الرسالات ،فالسلام لا يتأتي بالقفر على قوانين الطبيعة الفيزيائية وعلى منطق السياسية . .
ازاء تلك الاحداث والمعطيات نخلص الى القول بان الشعب الفلسطيني لطالما أشرئب الى الحرية لا يمكن له ان يبقى متمسكا بسراب السلام الواهم وانه سوف يتمسك بالعروة الوطنية الوثقى والتي مناطها الوحدة بين كل مكونات الشعب الفلسطيني ،وان مضى 26 عام من بيع الوهم في اوسلوا يبدو كافيا لئن يعرف الشعب بان عليه تبديل خياراته في التعامل مع حالة الصراع ،وان علينا تشكيل جبهة انقاذ وطنية وبالتنسيق مع الاردن كونه المستهدف الثاني من صفقة القرن ،فالشعب الفلسطيني ورغم كل انواع القتل التي مارسته اسرائيل في السنين الماضية لم يستسلم ولم يتسطيع احد ان يتنازل عن الثوابت الوطنية ،ففلسطين قضية يتداخل فيها المقدس بالاستراتيجي والجغرافيا بالديمغرافيا وهي عنوان الصراع الحضاري كله بل والارث التاريخي بين الغرب والشرق وستضاف صفقة القرن الى عدد من المبادرات الفاشلة التي وضعها الشعب الفلسطيني مزيلة تاريخ الفشل الامبريالي لامريكيا واسرائيل ،ربما تسلبني اخر شبر من ترابي ربما تسطو على ميراث جدي من اثاث واون وخراب ربما تحرق اشعاري وكتبي يا عدو الشمس لكن سأقاوم سأقاوم سأقاوم على ما قال الراحل سميح القاسم .