لا معنى لعدد مرات الاعتقالات عند الحديث عن مناضل لا يهزم، لا معنى لعدد الاعتقالات عندما تصبح أيام وأشهر وسنين حرمان من الضوء، من الشمس، من الحب، دون تعب دون ملل ودون انهزام، لا معنى لكل التقنيات، والأدوات، ورأس المال، التطور التكنولوجي والمعرفي، كافة الأدبيات، عندما تهزم أمام إرادة حرة لمناضل عتيد، لمناضل صنديد، قاوم ويقاوم بجسد أعزل.
أمضى أكثر من 18 عاما في سجون الاحتلال، ما يقارب ٦٥٧٠ يوما ما بين العشرين والخمسين، أمضاها في سجون الاحتلال، في سجون تفتقر لأبسط مقومات الحياة، مظلمة، لا ألوان فيها، داخل جدران اسمنتية قادرة على خنق وقتل الرغبة في الحياة، لكن قاصرة في ذات الوقت. أكثر من 18 عاما دون وضوح للمساء أو للغيوم أو للشمس، إلا أنه قاوم ويقاوم، خلق الحياة داخل جدران ميتة، كان ولا زال مثال للإنسان المكافح، المعطاء، والمحب، كان ولا زال يقرأ بنهم، يخلق من الحياة العدمية، معنى وأمل في الحياة، يضع برنامجه وتحدياته، يقرأ ويقرا ويقرأ، في تعلم دائم وباستمرار، وفي تعليم للآخرين، في تربية للأمل الدائم، في تهذيب متواصل للنفس، وفي صقل مستمر للشخصية.
عبد الرزاق فراج، الصامت المبتسم، الشديد القوي، من تشبع الإيمان الحتمي بالوطن، الجندي المجهول دائما، الذي لا يبحث عن أي تقدير لنضاله، لعطائه الذي لا ينضب، لتضحياته المستمرة، عبد الرازق المثقف الواعي، الذي جسد ويجسد ثقافته ومعرفته باستمرار.
درس عبد الرازق فراج في جامعة بيت لحم ثم اعتقل لأول مرة عام 1985 أمضى 6 سنوات، مما أعاق مسيرته الأكاديمية، ولم يعق استمراره بالتعلم والعمل والنضال. بعد عام 1991 استكمل دراسته الجامعية في جامعة بيرزيت ودرس الاقتصاد، ومن ثم حصل على دبلوم عالي في إدارة المؤسسات غير الربحية من جامعة بيرزيت.
عمل عبد الرازق في في الصحافة، وفي كتابة الأخبار والأعمدة، حيث يمتلك القدرة على الكتابة، بلغة قوية، بسيطة وعميقة في آن، لديه قدرة على الكتابة تحرك الخلايا الدفينة، ببساط وعذابة الكلمات وفي عمق معانيها. عمل بعد ذلك في العمل الأهلي، في القطاع الزراعي تحديدا لإيمانه بأهميته، دعم المزارعين، جسّد فكره وصدق انتماءه من خلال عمله. هو اللاجئ من مدينة الّلد المهجرة في تموز ١٩٤٨ إلى مخيم الجلزون، دائم الانحياز للفقراء، دائم الإيمان والعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية.
لعنة الاعتقال الإداري
"أعادتني الكتابة عن الاعتقال الإداري 33 عاماً إلى الوراء، وتحديداً إلى سنة 1985، حين كنت في الـثانية والعشرين من العمر، فبعد تحقيقٍ قاسٍ استمرّ نحو شهرين في مركز تحقيق المسكوبية في القدس نفيت خلاله كافة التهم المنسوبة إليّ، قال أحد ضباط التحقيق - بقدر ما تسعفني الذاكرة-: "لن يغيّر إنكارك للتهم الموجّهة ضدك شيئاً في الواقع، سنرسل توصية إلى المحكمة العسكرية تنصّ على إصدار عقوبة قاسية ضدك بموجب ’قانون تامير الذي يتيح الإدانة بناءً على اعترافات الغير‘، ناهيك عن الاعتقال الإداري!!"
بعد 3 أعوام من تحرر عبد الرازق من اعتقاله الأول، ابتدأ مسيرة الاعتقال الإداري، حيث اعتقل عام 1994 لمدة 20 شهرا، أي أنه هيأ نفسه للحريّة ما يقارب الأربع مرات، وتم تجديد اعتقاله الإداري في اللحظات الأخيرة، دون أي تهم توجه له، سوى شعور لدى الاحتلال بأن هذا الشخص يشكل خطرا على دولة الاحتلال. تحرر فراج عام 1996، أمضى 6 سنوات خارج سجون الاحتلال، خارج السجون الفعلية، إنما في حرية نسبية، داخل السجون الكبيرة، ممنوع من السفر، ممنوع من الدخول للمناطق المحتلة عام ١٩٤٨.
عندما نتحدث عن عبد الرازق ربما الأجدر أن نتحدث عن سنواته خارج سجون الاحتلال، لأن الست أعوام المذكورة هي المدة الأطول التي أمضاها يتمتع برؤية الشمس دون عوازل حديدة، منذ ان أصبح 22 عاما، حيث حلت عليه لعنة الاعتقالات، بدءا من الحكم الأول، إلى سلسلة الاعتقالات الإدارية.
مع حلول عام 2002، اعتقل عبد الرازق مجددا اعتقالا اداريا، في خضم أعوام الانتفاضة الثانية، وفي منع التجول. أذكر تماما هذا الاعتقال وتحديدا في تخطيط العائلة لكيفية إخبار جدتي (والدة الأسير) حول خبر تجديد الاعتقال في كل مرة. وأذكر تماما ما كان يجري قبل أيام من انتهاء الست شهور والتحليلات والتنبؤات حول ما إذا كان سيفرج عنه، أم أنه سيجدد، استمر هذا الحال لمدة ما يقارب 4 أعوام متواصلة، ما بين تمديد وآخر، لمدد تتراوح ما بين 3 أشهر و6 أشهر، في انتظار دائم للحظة فرح، انتظار غير معلوم الأجل، 4 أعوام وأكثر في أمل مستمر، 4 أعوام وأكثر ولم يشعر عبد الرازق ولو للحظة باليأس أو التعب، ظل دائما غير مكترث لغطرسة الاحتلال وبطشه، ظل دائما مبتسما هادئا قويا صلبا ولا زال.
منذ ذلك الحين والاعتقالات الإدارية بحق عبد الرازق مستمرة، تتراوح ما بين ال١٠ شهور والعامين، وكل يوم غياب هو شعور بالحرقة للأم والزوجة والأبناء والأحباء، حرقة الاشتياق والحب، لحظات كثيرة من اختلاج للمشاعر، من الحزن والتفاؤل باللقاء والحرية. ليصبح مجموع سنوات غياب عبد الرازق في الأسر ما يقارب ال١٨ عام، تضمنها عدة إضرابات طويلة عن الطعام، ضمن الإضرابات الجماعية للحركة الأسيرة، تضمنها حياة في اللاحياة، تضمنها برد يقضم الأطراف، جرذان، ورطوبة، وعفن داكن، إلا أن عبد الرازق لم ييأس ولم يتعب.
اعتقل فراج مرة أخرى في ٢٦ أيلول ٢٠١٩، ربما هو الاعتقال الأصعب، حيث تم إصدار أمر بالاعتقال الإداري مباشرة لمدة ٦ شهور، لم تنتهِ، ففي أواخر تشرين أول تم تحويل عبد الرازق إلى مركز تحقيق المسكوبية، ليمضي فترة ما يقارب ٣٠ يوم في ظروف تحقيق لا إنسانية ووحشية، في ظل ممارسة جهاز الشاباك أعتى صنوف التعذيب كالحرمان من النوم، واستخدام مختلف أشكال الشبح والضرب، مما أدى بعبد الرازق لخوض مواجهة من نوع مختلف أثناء التحقيق وإعلانه الاضراب عن الطعام لمدة ٤ أيام بهدف وقف التحقيق الوحشي معه، كما أنه منع من زيارة المحامي طيلة فترة التحقيق في محاولة لتغطية جرائم جهاز الشاباك، أنهى عبد الرازق التحقيق وتم نقله إلى سجن عوفر في انتظار المحاكمة.