اطلس-لا اعرف إن كان الواقع الافتراضي هو الذي يتيح لنا كل هذه المغالاة بكل ما يجري حولنا، سواء بالفرح او الحزن، بالتباهي او الخزي. بالتفاؤل او الإحباط. بالمديح او الذم.
بينما نعيش واقعا حقيقيا مليئا بالتحديات، يبقى تأمل ما يجري من احداث تحدث نفسها من جديد في كل مرة هو أكثر ما يمكن ان نفعله.
والتوجيهي في حمى الاحتفال به لا يختلف عن أي حدث يتحول في حياتنا الى ظاهرة. فهناك حمى الانتخابات، وحمى الطخ بالأفراح، وحمى الفساد المتعدد الطبقات، وحمى المطاعم وبالتالي حمى الأغذية الفاسدة والقاذورات، وحمى زراعة الحشيش وبالتالي تجارة المخدرات، وحمى كل ما نتخيله، حتى حمى المباريات.
هل يرتبط الوضع بكوننا شعب انفعالي، فكل ما يحصل حولنا "نحميه"؟ ام هو بالفعل تعبير عن حياة غير ثابتة، باهتة الافاق، يختلس المرء فيها أي وكل فرصة للفرح او الترح؟
قررت ان ادخل في حمى التوجيهي، بعد اعلان نتائج الامتحانات، فلم تمر دقائق حتى صارت المفرقعات تدوي من كل الاتجاهات، وكان جدار الفيسبوك يشتعل بالتبريكات من كل صوب. جيل من العباقرة بلا شك!!! او هكذا صورت لنا العلامات العالية. فإذا ما كان هناك أكثر من ١٠ بالمئة من الطلاب قد حصلوا على أكثر من ٩٠ بالمئة فهذا مؤشر على ان نسبة التفوق عالية جدا. يعني بالمحصلة كان هناك ٢٤ طالب وطالبة حصلوا على مركز العشرة الأوائل، وهؤلاء كلها لم ينزل معدلهم عن ٩٨.
لم اتابع كثيرا كم نسبة النجاح وكم كانت نسبة الطلاب الذين لم تتجاوز معدلاتهم الستين، بكل الأحوال سيكون السباق على الجامعات بنفس التحدي. فلم تعد العلامة العالية بالضرورة مفتاحا لتخصص يريده الطالب، ولا فرصة اكيدة لمنحة جامعية. فكما الفساد جلي في كافة مستويات السلطة الإدارية، ليس بغريب ولا مستهجن، إدراك ان ما يحصل بموضوع المنح والفرص ليس متكافئا ولا عادلا.
في مكان اخر في فضاء الفيسبوك، قررت ان ادخل في حمى التبريكات، على الرغم من أني قبل دقائق كنت قد كتبت على صفحتي استيائي مما يجري من طخ في الأجواء.
قررت ان أقوم بتجربة، بظاهرها دعابة وفي باطنها توضيح او تسليط الأنظار لمدى سهولة خداع الناس عن طريق منشور كيف يمكن ان يتحول هذا الكذب بلحظات لواقع.
جاءتني الفكرة من لحظة قديمة عندما قرر أحد اقاربي قبل عشرات السنين، عندما كانت التبريكات بالنجاح على صفحات الجريدة، حينها قرر قريبي والذي كان لا يصغرني كثيرا، ان يحتفل بنجاحه الباهر بالتوجيهي على الرغم من انه لم ينه تعليمه الابتدائي.
وبالفعل جاءت التهاني للعائلة واستقبلت امه المهنئين، على الرغم من ان الجميع كان يعرف انه لم يتقدم ابدا للامتحان.
قلت في نفسي هذه المرة، لأجرب ان أعلن عن نجاح ابني (الوهمي) واعطيه رقم جلوس (وهمي) وابارك لنفسي على علامة مبهرة (٩٧.٨). لم اتخيل للحظة انني وفي خلال ساعة سأحصد فوق المئتين تعليق ومئات اللايكات. بعد ساعة كتبت تعليقا أوضح فيه انني كنت امزح فلا ابنا لي يدعى (ادم) ولا مبدأ لرقم الجلوس الذي اخترعته. ومع هذا استمرت التبريكات لتتعد الخمسمائة مباركة. أكملت بمنشور اخر لأوضح أكثر، لأنه خرج من هذه "المزحة" التي تحولت الى "ثقيلة" و "كذبة" بالنسبة للبعض، بأن الهدف منها كان مجرد محاولة لفهم حالة ما. ومع هذا استمرت التبريكات.
لم ينتبه الا القلة من الأصدقاء الفيسبوكيين بين أولئك الذين يعرفونني بالفعل، وأولئك الأقارب لي، وأولئك الذين لم التق بهم بحياتي، ان المنشور من ناحيتي كان بأصله غريبا عني، فانا بكل ما أكتب انتقد هكذا عادات لما فيها من احراج لمن لم يحالفه الحظ بعلامة عالية، وان العلامة هي من حق الطالب لا من حق الاهل. فحق الطالب فقط ان يبارك لنفسه ويتفاخر بإنجازه. كان من السهل فهم، انه وفي حمية التبريكات، لم ينتبه الكثيرين، وهذه مشكلة. هناك من بارك سامحا لي بأنه يحق لي الاحتفال بابني في هذه اللحظة التاريخية بغض النظر عن مبادئي المعلنة. وهناك من لم ينتبه لرقم الجلوس، وهناك من انتبه وبارك. وهناك من أدرك بأن ليس لي ابن اسمه ادم، وفكر انه ربما انجبت ابنا ما في وقت ضائع من الحياة. وقد أكمل في دوائر الفرضيات التي حصلت، والتي من الممكن ان تذهب الى بعيد... ولكن مع هذا تستمر التبريكات حتى هذه اللحظة.
ذكرني صديق بما جرى في مصر قبل أشهر قليلة عندما حصل حريق في محطة القطارات. كتب أحد الشبان حينها على التويتر في محاولة شبيهة لرؤية مدى دحرجة المعلومة وتحويلها الى حقيقة بالنسبة للناس. كتب الشاب حينها ان تم تعيين والده وزيرا للمواصلات وانه مختص بهندسة القطارات وانه عمل بمحطات قطار فرنسا. في تلك الليلة كان الرجل الذي صنعه هذا الشاب محور حديث ونقاش محطات التلفزة ومعلوماته كان يتم تداولها من قبل ارفع موظفي الدولة. بينما كذب الشاب الخبر، وأعلن ان والده متوفي وليس مهندسا ولم يخرج من مصر، الا ان الاعلام استمر بإعلان خبر تعيين هذا الرجل الخارق لأيام. وطبعا، صار الهجوم على الشاب، بدلا من فهم ما يجري من مآسي في هذا الصدد.
المهم، وبينما لا أزال اتلقى التبريكات، تنبهت كذلك الى "ظاهرة" تكميلية لنتائج التوجيهي، وهي جدية حفلات التخرج. فتمتلئ صفحات التواصل في تساؤلات من قبل أنساء تريد "فتوى شرعية او اجتماعية" بصدد شرعية الاحتفال مثلا احداهن تسأل كيف تتعامل مع دعوة لأخيها في حفلة مختلطة، وهي واخواتها محجبات يرفضن الاختلاط، فهل عليهم الذهاب ام مقاطعة اخيهن وبالتالي تنشب حربا بقطيعة الأخ الوحيد. وأخرى تسأل ان كان يحق لها عمل حفلة بينما رسب ابن سلفها. وأخرى تسأل ان كانت تستطيع دعوة اهل زوجها المقاطعين لها منذ سنوات .... وهكذا من تساؤلات حقيقية وردود أكثر جدية.
ومع هذا نتناسى جميعا، ان هناك يوم تالي، لجامعات لن ترقى لطموحات الأبناء، سيتلوها شهادات لن يجد فيها الطالب المتخرج عملا يتناسب مع دراسته ان وجد. في وقت تتسع الهوة في البطالة، وتزداد الشهادات الجامعية ويرتفع عدد المتفوقين ... يتمسك المجتمع بعادات كانت بالأصل جميلة، وحولها كمن يحمل جمر الأعراف ويضعها تاجا على رأسه. فكيف يتوازى مبدأ المفرقعات مع التعليم؟ وكيف نتوقع الابداع بينما العلامة العالية المبنية على الحفظ والبصم والتلقين هي قمة النجاح.
هل لوزارة التربية والتعليم ان تتعلم درسا مهما من مجريات الاحداث؟ أهمية التوجيهي وبالتالي إمكانية العمل الحقيقي على أجيال الطلاب المتلاحقة، ورداءة المناهج وسوء التعليم. فالتربية والتعليم لم تعد لها علاقة بما يجري تحت مسمى التربية والتعليم!!