اطلس- إذا أردت أن تعرف ماذا جرى في وارسو، فعليك أن تعرف أولاً ما الذي جرى، وما زال يجري من عمليات تجريف، ودعشنة، وتقسيم في "بلاد العرب أوطاني
من نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان؛ وما حل بتلك البلدان من استباحة لسيادتها، وإزاحة لشعوبها في أكبر عملية تهجير يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن عصفت بتلك النظم رياح التقسيم، وحروب الطوائف، على وقع ابتزاز أمريكي إسرائيلي، يروم عدوًا تناصبه تلك البلدان العداء غيره، ليكون هو في موقع الشريك والحليف في مواجهة ذلك العدو الجديد، طامحاً في اتخاذ "منصة وارسو" منطلقاً للإعلان عن تحالف علني بما يسمى "نيتو عربي"، لخوض حرب مع "العدو الايراني" وهو ما عبر عنه نتنياهو في تغريدة له سُحبت بعد ساعة من نشرها. وقال فيها:"إن هذا اللقاء مفتوح مع ممثلي الدول العربية الرائدة الذين يجلسون معا مع اسرائيل من أجل تعزيز المصلحة المشتركة للحرب مع ايران". ورغم أن شعار المؤتمر هو " تشجيع الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط" فإن تغريدة نتنياهو تستبطن مسعى إسرائيليًا لتوريط دول الخليج بحرب مع إيران كتلك التي اشتعلت في ثمانينيات القرن الماضي بين العراق وإيران، واستمرت لثماني سنوات، وأتت على مقدرات البلدين، قبل أن تنتهي، بعدوان ثلاثينيّ قوّض حكم المنتصر في تلك الحرب العبثية.
انفض "سامر وارسو" الذي التأم في العاصمة البولندية على مدار يومين، مختتمًا أعماله الخميس الماضي، دون أن يصدر عن المتسامرين بيان ختامي، وهو ما يضيف فشلًا للمؤتمر الذي تلقى ضربة عشية انعقادة عبّر عنه الحضور المتواضع للدول المشاركة فيه، بينما كانت فلسطين هي الغائب الحاضر في جلساته، وحواراته، وخلواته التي يعتقد أن ما بطن منها، أكثر بكثير من الذي ظهر، بينما بدا وزير الخارجية اليمني خالد اليماني، وهو يتوسّط بشرعية مثقوبة، وزير الخارجية الامريكي مايك بومبيو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما لو أنه أحضر إلى المكان بمذكرة جلبٍ أمريكية لضرورات التقاط "الصورة الفضيحة"، وتقديم نموذج للنخوة العربية الأصيلة بإقالة "الصديق الجديد"من عثرته إذا ما اختنق صوته، وتعطّل ميكروفونه، ولم يسعف اليماني تبريره لما حدث بـ "الخطأ البروتوكولي"!
لن تفلح لقاءات وارسو مهما تلفعت بأردية من الشعارات الأمريكية الاسرائيلية البائسة، لشيطنة إيران، في نزع اللقب من إسرائيل "كعدو لا شريك له"، يقتل، ويغتصب، ويعتقل، وينكّل، على نحو وحشي ما دفع الصحفيّة الإسرائيلية المحترمة في القناة الثالثة عشرة الإسرائيلية "أشورات كوتلر" للمجاهرة بانتقادها لذلك التوحّش عندما وصفت الجنود الإسرائيليين العاملين في الضفة الغربية بـ"الوحوش البرية" قائلةً: "ترسلون أولادكم للخدمة بالجيش، في الضفة الغربية، ويعودون لكم وحوشًا برية، هذه هي النتيجة الحتمية للاحتلال"؛ رغم ما جرّه ذلك الانتقاد عليها من توحش مماثل بالتوعد بمعاقبتها لمجرد بوحها برأيها إزاء قضية يفترض أن تنال الثناء لا التقريع عليها. مثلما لن تحصد المشاركة العربية المتهافتة في ذلك السامر البائس أي مكاسب من وراء تلك المشاركة، التي تَسحب من رصيد الدول المشاركة، أكثر مما تضيف، وهو ما حرصت عليه الكويت واليمن، عبر بيانين صدرا عقب تلك المشاركة المحزنة، استشعارًا منهما لخطورة الاستغلال الإسرائيلي لحضور ممثلي بلديهما ذلك الحفل المريب.
فلسطينيًا. فباستثناء التصريحات الصادرة عن الرئيس محمود عباس، عشية انعقاد المؤتمر، والتي استبطنت قلقًا، وتحذيرًا من مغبة وضع الملف الفلسطيني في الإطار الإقليمي، عندما قال سيادته: "لن نشارك في أي مؤتمر دولي لم يتخذ الشرعية الدولية أساسًا له، ونحن لم نكلف أحدًا بالتفاوض نيابة عنا، ونحن أصحاب الموقف الأول والأخير في القضية الفلسطينية، ولا أحد ينوب عنّا، ولا أحد يتكلّم باسمنا". أقول باستثناء هذا التصريح اليتيم، فإن الخارجية الفلسطينية لاذت بـ "الخرس الدبلوماسي"، إزاء ما صدر من تصريحات معلنة، وتسريبات مخجلة من بعض المشاركين في المؤتمر، فيما بدا بعض سفرائنا في عواصم الدول الشقيقة والصديقة، ممثلين لتلك الدول أكثر من كونهم ممثلين لبلدهم فيها، ذلك أن خرس الدبلوماسية الفلسطينية ورخاوة فكِّها إذا ما تواصل على هذا النحو المثير للرثاء، فإن من شأنه أن يقدّم إشارات خاطئة لتلك الدول، بمواصلة عمليات التطبيع والتهافت المجاني إلى حد المجاهرة بإقامة علاقات رسمية معها، طالما لم يصدر عن تلك "الدبلوماسية الخرساء"، أضعف الإيمان في العمل الدبلوماسي، المتمثل بالتعبير عن الاحتجاج والقلق عمّا صدر عن ممثلي تلك الدول من تصريحات مؤسفة والتذكير بأسس مبادرة السلام العربية التي تقوم على التطبيق من الألف إلى الياء، وليس العكس.
رغم اطمئناننا للموقف السعودي الذي صدر في ختام الزيارة التي قام بها الرئيس محمود عباس للمملكة عشية انعقاد المؤتمر في العاصمة البولندية، والذي أكدت فيه الرياض ثبات موقفها من رفض المشاركة في أي صفقات لا يقبل بها الفلسطينيون؛ إلاّ أن هذا الموقف السعودي الإيجابي، ينبغي تعزيزه، وتصليبه، بمواصلة البناء عليه، عبر تذكير جميع الدول الخليجية الشقيقة به، عشية الجولة المرتقبة التي سيقوم بها "جاريد كوشنر" نهاية الشهر الجاري، لعواصم تلك الدول، بحثًا عن تمويل لـ "صفقة القرن"، التي من المتوقع الإعلان عنها عقب الانتخابات الاسرائيلية في نيسان المقبل.